يَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْآخِذِ فِسْقٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْآخِذَ يُفَسَّقُ مُطْلَقًا فَمُعِينُهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْطِي فَإِنْ كُنَّا حَكَمْنَا بِفِسْقِهِ فُسِّقَ رَسُولُهُ وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّائِشِ فَقَالَ: هُوَ تَابِعٌ لِلرَّاشِي فِي قَصْدِهِ إنْ قَصَدَ خَيْرًا لَمْ تَلْحَقْهُ اللَّعْنَةُ وَإِلَّا لَحِقَتْهُ. وَلَا فَرْقَ فِي الرِّشْوَةِ الْمُقْتَضِي أَخْذُهَا الْفِسْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ أَطْلَقَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَكَذَا أَخْذُهَا رِشْوَةً وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رُبُعَ دِينَارٍ وَأَنْ لَا، وَكَذَا أَطْلَقَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ وَجَرَى عَلَى إطْلَاقِهِ فِيهَا وَفِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ الشَّيْخَانِ، وَسَيَأْتِي عَنْ النَّصِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَذَلِكَ يُورِثُ تَضْعِيفَ التَّقْيِيدِ فِي الْمَغْصُوبِ بِرُبُعِ دِينَارٍ. انْتَهَى.
وَمَرَّ فِي الْغَصْبِ وَغَيْرِهِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّشْوَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُضَاةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ خِلَافًا لِلْبَدْرِ بْنِ جَمَاعَةَ وَغَيْرِهِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ» . وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَدْ أَتَى بَابًا كَبِيرًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السُّحْتُ أَنْ تَطْلُبَ لِأَخِيك الْحَاجَةَ فَتُقْضَى فَيُهْدِيَ إلَيْك هَدِيَّةً فَتَقْبَلَهَا مِنْهُ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَلَّمَ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلِمَةٍ فَرَدَّهَا فَأَهْدَى إلَيْهِ صَاحِبُ الْمَظْلَمَةِ وَصِيفًا فَرَدَّهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَقَالَ: يَعْنِي مَسْرُوقًا: سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلِمَةً فَأَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَهُوَ سُحْتٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ السُّحْتَ إلَّا الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ فَقَالَ ذَلِكَ كُفْرٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَجَاءَ نَصْرَانِيٌّ إلَى الْإِمَامِ الْأَوْزَاعِيِّ وَكَانَ يَسْكُنُ بَيْرُوتَ فَقَالَ إنَّ وَالِيَ بَعْلَبَكَّ ظَلَمَنِي وَأُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ فِي إلَيْهِ وَأَتَاهُ بِقُلَّةِ عَسَلٍ فَقَالَ لَهُ إنْ شِئْتَ رَدَدْتَ عَلَيْكَ قُلَّتَكَ وَأَكْتُبُ إلَيْهِ وَإِنْ شِئْتَ أَخَذْتُهَا وَلَا أَكْتُبُ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ بَلْ اُكْتُبْ لِي وَارْدُدْهَا فَكَتَبَ لَهُ أَنْ ضَعْ عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ فَشَفَعَهُ الْوَالِيَ فِيهِ وَحَطَّ عَنْهُ مِنْ جِزْيَتِهِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا أَخَذَ الْقَاضِي رِشْوَةً عَلَى قَضَائِهِ فَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ وَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ وَالرِّشْوَةُ مَرْدُودَةٌ، وَإِذَا أَعْطَى الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ رِشْوَةً فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute