أَجْدَرُ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ سَائِرِ الْمَزَامِيرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهَا؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ إطْرَابًا وَهِيَ شِعَارُ الشَّرَبَةِ وَأَهْلِ الْفُسُوقِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الصِّنَاعَةِ: هِيَ آلَةٌ كَامِلَةٌ وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ النَّغَمَاتِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ تَنْقُصُ قِيرَاطًا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: هِيَ مِنْ أَعْلَى الْمَزَامِيرِ وَكُلُّ مَا لِأَجْلِهِ حَرُمَتْ الْمَزَامِيرُ مَوْجُودٌ فِيهَا وَزِيَادَةٌ فَتَكُونُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمَا قَالَهُ حَقٌّ وَاضِحٌ وَالْمُنَازَعَةُ فِيهِ مُكَابَرَةٌ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْحُفَّاظُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنْهُ: «أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَجَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. وَعَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ وَجَعَلَ يَقُولُ يَا نَافِعُ أَتَسْمَعُ؟ فَأَقُولُ: نَعَمْ، فَلَمَّا قُلْت لَا رَجَعَ إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ إنَّهُ مُنْكَرٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَسُئِلَ عَنْهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ السَّلَامِيُّ فَقَالَ: إنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَالِغًا إذْ ذَاكَ عُمُرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ: وَهَذَا مِنْ الشَّارِعِ لِيُعَرِّفَ أُمَّتَهُ أَنَّ اسْتِمَاعَ الزَّمَّارَةِ وَالشَّبَّابَةِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ اسْتِمَاعُهُ، وَرَخَّصَ لِابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ حَالَةُ ضَرُورَةٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا ذَلِكَ وَقَدْ يُبَاحُ الْمَحْظُورُ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ: وَمَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ انْتَهَى.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: بِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَزَامِيرِ وَعَلَيْهِ بَنَوْا التَّحْرِيمَ فِي الشَّبَّابَةِ. وَأَمَّا مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إبَاحَتِهَا تَمَسُّكًا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ وَلَا نَهَى الرَّاعِيَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ تَنْزِيهًا أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ ذِكْرٍ أَوْ فِكْرٍ وَكَانَ السَّمَاعُ يَشْغَلُهُ فَسَدَّ أُذُنَيْهِ لِذَلِكَ فَرَدُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنَّ تِلْكَ الزَّمَّارَةَ لَمْ تَكُنْ مِمَّا يَتَّخِذُهُ أَهْلُ هَذَا الْفَنِّ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ مِنْ الشَّبَّابَاتِ الَّتِي يُتْقِنُونَهَا وَتَحْتَهَا أَنْوَاعٌ كُلُّهَا مُطْرِبَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَمْرَ الرَّاعِي فِي قَصَبَةٍ لَيْسَ كَزَمْرِ مَنْ جَعَلَهُ صَنْعَةً وَتَأَنَّقَ فِيهِ وَفِي طَرَائِقِهِ الَّتِي اخْتَرَعُوا فِيهَا نَغَمَاتٌ تُحَرِّكُ إلَى الشَّهَوَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا لَمْ يَأْمُرْ ابْنَ عُمَرَ بِسَدِّ أُذُنَيْهِ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ كَأَقْوَالِهِ فَحِينَ فَعَلَ ذَلِكَ بَادَرَ ابْنُ عُمَرَ إلَى التَّأَسِّي بِهِ، وَكَيْفَ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ تَرَكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute