وَمِنْهَا قَوْلُ الْإِمَامِ فِي الْكُوبَةِ: لَوْ رَدَدْنَا إلَى مَسْلَكِ الْمَعْنَى فَهِيَ فِي مَعْنَى الدُّفِّ، وَلَسْت أَرَى فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا إلَّا أَنَّ الْمُخَنَّثِينَ يُولَعُونَ بِهَا وَيَعْتَادُونَ ضَرْبَهَا، وَقَوْلُهُ أَيْضًا الَّذِي يَقْتَضِيهِ الرَّأْيُ أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ أَلْحَانٌ مُسْتَلَذَّةٌ تُهَيِّجُ الْإِنْسَانَ وَتَسْتَحِثُّهُ عَلَى الطَّرَبِ وَمُجَالَسَةِ أَحْدَاثِهِ فَهُوَ الْمُحَرَّمُ وَالْمَعَازِفُ وَالْمَزَامِيرُ كَذَلِكَ، وَمَا لَيْسَ لَهُ صَوْتٌ مُسْتَلَذٌّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ لِأَنْغَامٍ قَدْ تُطْرِبُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُسْتَلَذُّ فَجَمِيعُهَا فِي مَعْنَى الدُّفِّ.
وَالْكُوبَةُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ كَالدُّفِّ فَإِنْ صَحَّ فِيهَا تَحْرِيمٌ حَرَّمْنَاهَا وَإِلَّا تَوَقَّفْنَا فِيهَا، وَقَوْلُهُ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَا يُمَيِّزُهُ مِنْ سَائِرِ الطُّبُوعِ إلَّا أَنَّ الْمُخَنَّثِينَ يَعْتَادُونَ ضَرْبَهُ وَيَتَوَلَّعُونَ بِهِ فَإِنْ صَحَّ حَدِيثٌ عَمِلْنَا بِهِ. انْتَهَى. وَيَرُدُّهُ مَا يَأْتِي أَنَّ هَذَا بَحْثٌ مِنْهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا نُعَوِّلُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ فَلَا نَظَرَ إلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ وَضَعْفِهِ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ نَفْسُهُ عَنْ أَبِيهِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ مَا يُوَافِقُ الْإِجْمَالَ، فَقَالَ: كَانَ شَيْخِي يَقْطَعُ بِتَحْرِيمِهَا، وَيَقُولُ فِيهَا أَخْبَارٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى ضَارِبِهَا وَالْمُسْتَمِعِ إلَى صَوْتِهَا. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِطَبْلِ اللَّهْوِ بَاطِلَةٌ وَلَا نَعْرِفُ طَبْلَ لَهْوٍ يَلْتَحِقُ بِالْمَعَازِفِ حَتَّى تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ بِهِ إلَّا الْكُوبَةَ وَتَبِعَهُ فِي الْبَسِيطِ فَقَطَعَ بِتَحْرِيمِهَا وَأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْ الطُّبُولِ إلَّا هِيَ، لَكِنْ اعْتَرَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الْكَافِي الْكُوبَةُ حَرَامٌ وَطَبْلُ اللَّهْوِ فِي مَعْنَاهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهَا، وَبِأَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ حَرَّمُوا الطُّبُولَ كُلَّهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ. وَالْأَصَحُّ حِلُّ مَا عَدَا الْكُوبَةَ مِنْ الطُّبُولِ، وَقِيلَ أَرَادَ الْعِرَاقِيُّونَ طُبُولَ اللَّهْوِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَمِمَّنْ أَطْلَقَ تَحْرِيمَ طُبُولِ اللَّهْوِ الْعُمْرَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَقَضِيَّةُ مَا فِي الْحَاوِي وَالْمُقَنَّعِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَعِبَارَةُ الْقَاضِي: أَمَّا ضَرْبُ الطُّبُولِ فَإِنْ كَانَ طَبْلَ لَهْوٍ فَلَا يَجُوزُ. وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنْ الطُّبُولِ طَبْلَ الْحَرْبِ وَالْعِيدِ وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الطُّبُولِ وَخَصَّ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْعِيدِ بِالرِّجَالِ خَاصَّةً، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا.
وَعَدَّ جَمْعٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَكْبَارِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ عَقِبَ كَلَامِ الْإِمَامِ الثَّانِي إنَّهُ بَحْثٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ كَلَامِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَقِبَهُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي الْكُوبَةِ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ. وَمِمَّا يَرُدُّهُ أَيْضًا قَوْلُ سُلَيْمٍ فِي تَقْرِيبِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْكُوبَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِكُلِّ مُذْنِبٍ إلَّا صَاحِبَ عَرْطَابَةٍ أَوْ كُوبَةٍ» وَالْأَوْلَى الْعُودُ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ إجْمَاعٌ انْتَهَى.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute