للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَخْتَلِفُ سَمَاعُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ أَثَّرَ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُخَوِّفَاتِ بِنَحْوِ حُزْنٍ وَبُكَاءٍ وَتَغَيُّرِ لَوْنٍ، وَهُوَ إمَّا خَوْفُ عِقَابٍ أَوْ فَوَاتُ ثَوَابٍ أَوْ أُنْسٌ وَقُرْبٌ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَائِفِينَ وَالسَّامِعِينَ وَتَأْثِيرُ الْقُرْآنِ فِيهِ أَشَدُّ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ أَثَّرَ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُرَجَّيَاتِ، وَسَمَاعُ مَنْ رَجَاؤُهُ لِلْأُنْسِ وَالْقُرْبِ أَفْضَلُ مِنْ سَمَاعِ مَنْ رَجَاؤُهُ الثَّوَابُ.

وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ لِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ سَمَاعُ الْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ، أَوْ لِكَمَالِهِ الْمُطْلَقِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ ذِكْرُ شَرَفِ الذَّاتِ وَكَمَالِ الصِّفَاتِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ وَيَخْتَلِفُ هَؤُلَاءِ فِي الْمَسْمُوعِ مِنْهُ، فَالسَّمَاعُ مِنْ الْوَلِيِّ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ السَّمَاعِ مِنْ عَامِّيٍّ، وَمِنْ نَبِيٍّ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ مِنْ وَلِيٍّ، وَمِنْ الرَّبِّ تَعَالَى أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْهُ مِنْ النَّبِيِّ، وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَأَصْحَابُهُمْ بِسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْغِنَاءِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِمْ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوًى مُبَاحٌ كَمَنْ يَعْشَقُ حَلِيلَتَهُ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ آثَارُ الشَّوْقِ وَخَوْفُ الْفِرَاقِ وَرَجَاءُ التَّلَاقِ فَسَمَاعُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوًى مُحَرَّمٌ كَعِشْقِ أَمْرَدَ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ السَّعْيُ إلَى الْحَرَامِ وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ؛ أَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ فَيُكْرَهُ سَمَاعُهُ، وَمَرَّ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَقَدْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ فَجَرَةٌ يَبْكُونَ وَيَنْزَعِجُونَ لِأَغْرَاضٍ خَبِيثَةٍ أَبْطَنُوهَا يُرَاءُونَ بِأَنَّهُ لِشَيْءٍ مَحْمُودٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السَّمَاعُ الْمَحْمُودُ إلَّا عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَالصِّفَاتِ الْمَرَضِيَّةِ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ مُلَخَّصًا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَلِأَبِي قَاسِمٍ الْقُشَيْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ مُؤَلَّفٌ فِي السَّمَاعِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِهِ مَعْرِفَةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِيَعْلَمَ صِفَاتِ الذَّاتِ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَالْمَخْلُوقَاتِ وَمَا الْمُمْتَنِعُ فِي نَعْتِ الْحَقِّ وَمَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِهِ وَمَا يَجِبُ وَمَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَمَا يُمْتَنَعُ، فَهَذِهِ شَرَائِطُ صِحَّةِ السَّمَاعِ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ التَّحْصِيلِ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ.

وَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقَائِقِ فَالشَّرْطُ فَنَاءُ النَّفْسِ بِصِدْقِ الْمُجَاهَدَةِ ثُمَّ حَيَاةُ الْقَلْبِ بِرُوحِ الْمُشَاهَدَةِ فَمَنْ لَمْ تَتَقَدَّمْ بِالصِّحَّةِ مُعَامَلَتُهُ، وَلَمْ تَحْصُلْ بِالصِّدْقِ مُنَازَلَتُهُ فَسَمَاعُهُ ضَيَاعٌ وَتَوَاجُدُهُ طِبَاعٌ وَالسَّمَاعُ فِتْنَةٌ يَدْعُو إلَيْهَا اسْتِيلَاءُ الْفِسْقِ إلَّا عِنْدَ سُقُوطِ الشَّهْوَةِ وَحُصُولِ الصَّفْوَةِ، وَأَطَالَ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَبِمَا ذَكَرَهُ يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُ السَّمَاعِ وَالرَّقْصِ عَلَى أَكْثَرِ مُتَصَوِّفَةِ الزَّمَانِ لِفَقْدِ شُرُوطِ الْقِيَامِ بِآدَابِهِ. انْتَهَى.

<<  <  ج: ص:  >  >>