يُحَرِّمُ الْهَجْوَ الصَّادِقَ حَيْثُ لَا يُحَرِّمُ الْكَلَامَ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ إشَاعَةُ فَاحِشَةٍ فَهُوَ حَرَامٌ. اهـ. وَلَهُ وَجْهٌ لَكِنْ يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ قَوْلُ الرُّويَانِيِّ يَحْرُمُ الْهَجْوُ وَلَوْ كَانَ صَادِقًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ زَادَ الْقَمُولِيُّ فِي جَوَاهِرِهِ وَإِثْمُ الصَّادِقِ أَخَفُّ مِنْ إثْمِ الْكَاذِبِ. وَاحْتَرَزْت بِالتَّقْيِيدِ فِي التَّرْجَمَةِ بِالْمُسْلِمِ عَنْ الْكَافِرِ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا وَتَفْصِيلًا بَلْ فِي الْمُسْلِمِ تَفْصِيلٌ أَيْضًا.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ أَطْلَقُوا جَوَازَ هَجْوِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ الرُّويَانِيُّ وَالصَّيْدَلَانِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْجُرْجَانِيُّ وَأَصْحَابُ الْكَافِي وَالْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ، وَجَرَى عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَجْوِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» فَكَانَ يَهْجُو قُرَيْشًا وَيَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ فِيهِمْ أَشَدُّ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ» .
وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ عَلَى الْعُمُومِ، وَفِي الْمُعَيَّنِ الْحَرْبِيِّ مَيِّتًا كَانَ أَوْ حَيًّا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِيبٌ مَعْصُومٌ يَتَأَذَّى بِهِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُعَاهَدُ وَالْحَرْبِيُّ الَّذِي لَهُ قَرِيبٌ ذِمِّيٌّ أَوْ مُسْلِمٌ يَتَأَذَّى بِهِ فَلَا يَجُوزُ هَجْوُهُ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الْأَذْرَعِيُّ وَكَذَا ابْنُ الْعِمَادِ وَزَادَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ كَالذِّمِّيِّ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ يَلْزَمَنَا الْكَفُّ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَكَذَا الزَّرْكَشِيُّ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الْوَجْهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَجْوِ حَسَّانَ وَغَيْرِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُفَّارَ قُرَيْشٍ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ فِي حَرْبِيٍّ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ ذَبٌّ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مِنْ الْقُرَبِ فَضْلًا عَنْ الْمُبَاحَاتِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ وَدَعَا لَهُ بِمَا مَرَّ، وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ الْمُبْتَدِعَ بِالْحَرْبِيِّ فَيَجُوزُ هَجْوُهُ بِبِدْعَتِهِ، لَكِنْ لِمَقْصِدٍ شَرْعِيٍّ كَالتَّحْذِيرِ مِنْ بِدْعَتِهِ.
قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: وَيَجُوزُ هَجْوُ الْمُرْتَدِّ دُونَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ اهـ. وَمَا قَالَهُ فِي الْمُرْتَدِّ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ كَالْحَرْبِيِّ بَلْ أَقْبَحُ وَفِي الْآخَرِينَ مَحَلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَتَجَاهَرَا. أَمَّا الْمُتَجَاهِرُ بِفِسْقِهِ فَيَجُوزُ هَجْوُهُ بِمَا تَجَاهَرَ بِهِ فَقَطْ لِجَوَازِ غِيبَتِهِ بِهِ فَقَطْ كَمَا مَرَّ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ جَمْعٍ جَوَازَ هَجْوِ الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ، وَقَوْلُ الْبُلْقِينِيِّ الْأَرْجَحُ تَحْرِيمُ هَجْوِهِ إلَّا لِقَصْدِ زَجْرِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتُوبُ وَتَبْقَى وَصْمَةُ الشِّعْرِ السَّائِرِ عَلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ يُرَدُّ بِأَنَّ مُجَاهَرَتَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَعَدَمَ مُبَالَاتِهِ بِالنَّاسِ وَكَلَامِهِمْ فِيهِ صَيَّرَاهُ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ وَلَا مُرَاعًى، فَهُوَ الْمُهْدِرُ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَجَاهَرَ بِهِ فَلَمْ يُبَالِ بِبَقَاءِ تِلْكَ الْوَصْمَةِ عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute