للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ فَثَمَرَةُ النَّدَمِ وَلَيْسَا بِشَرْطَيْنِ لَهَا لِاسْتِحَالَتِهِ بِدُونِهِمَا لِمَا يَأْتِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ ذَيْنك. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ إنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» .

وَجَمَعَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ بَيْنَ طَرِيقَتَيْ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ حَيْثُ فَسَّرَهَا بِالنَّدَمِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النَّدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِبَقِيَّةِ الْأُمُورِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الْفُقَهَاءُ ثَلَاثَةً بَلْ خَمْسَةً بَلْ أَكْثَرَ عَلَى مَا يَأْتِي: الْأَوَّلُ: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ إنْ كَانَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَوُقُوعِهِ فِي الذَّنْبِ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسَفًا عَلَى عَدَمِ رِعَايَةِ حَقِّهِ؛ فَلَوْ نَدِمَ لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ كَعَارٍ أَوْ ضَيَاعِ مَالٍ أَوْ تَعَبِ بَدَنٍ أَوْ لِكَوْنِ مَقْتُولِهِ وَلَدَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا الْأُصُولِيُّونَ، وَكَلَامُ أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ نَاطِقٌ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِبَادَةٌ وَهِيَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلَّهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا إنْ كَانَتْ لِغَرَضٍ آخَرَ، وَإِنْ قِيلَ مِنْ خَصَائِصِ التَّوْبَةِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا بَاطِنَةٌ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِخْلَاصِ لِتَكُونَ مَقْبُولَةً وَلَا يَدْخُلُهَا الْعُجْبُ وَالرِّيَاءُ وَلَا مَطْمَعَ لِلْخُصَمَاءِ فِيهَا.

وَذَكَرَ أَبُو نَصْرِ الْقُشَيْرِيُّ عَنْ وَالِدِهِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ أَنْ يَذْكُرَ مَا مَضَى مِنْ الزَّلَّةِ وَيَنْدَمَ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَسْلَفَ ذَنْبًا وَنَسِيَهُ فَتَوْبَتُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَزْمُهُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إلَى ذَنْبٍ مَا يَكُونُ تَوْبَةً مِمَّا نَسِيَهُ، وَمَا دَامَ نَاسِيًا لَا يَكُونُ مُطَالَبًا بِالتَّوْبَةِ عَمَّا نَسِيَهُ وَلَكِنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِتِلْكَ الزَّلَّةِ، وَهَذَا كَمَا لَوْ كَانَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَنَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَدَاءِ فَهُوَ حَالًا غَيْرُ مُطَالَبٍ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ الْإِعْسَارِ، وَلَكِنْ يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ مُطَالِبُهُ، وَهِيَ مِنْ ذَنْبٍ دُونَ آخَرَ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا، وَمِنْ جُمْلَةِ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَفَاصِيلِهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا النَّدَمُ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا تَذَكَّرَ مَا فَعَلَهُ حَتَّى يَتَصَوَّرَ نَدَمَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ تَفْصِيلَ الذَّنْبِ فَلْيَقُلْ إنْ كَانَ لِي ذَنْبٌ لَمْ أَعْلَمْهُ فَإِنِّي تَائِبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا فِيمَا إذَا عَلِمَ لِنَفْسِهِ ذُنُوبًا لَكِنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُهَا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ لِنَفْسِهِ ذَنْبًا فَالنَّدَمُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحَالٌ، وَإِنْ عَلِمَ لَهُ ذَنْبًا لَكِنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ فِي التَّذَكُّرِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى مَا ارْتَكَبَ مِنْ الْمُخَالَفَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ ثُمَّ الْعَزْمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إلَى الْمُخَالَفَةِ أَصْلًا. انْتَهَى.

وَحَاصِلُ عِبَارَةِ الْقَاضِي: لَوْ كَانَ الْمُصِيبُ لِلذَّنْبِ الْوَاحِدِ أَوْ الذُّنُوبِ عَالِمًا بِهَا أَوْ ذَاكِرًا لَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَوْ الْجُمْلَةِ فَيَقُولُ: إذَا كَانَ مِنِّي ذَنْبٌ لَمْ أَعْلَمْهُ فَأَنَا تَائِبٌ إلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>