قَالَ إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى النَّاسِ» ، فَمَعْنَاهُ لَا أَطْلُبُ مَظْلِمَتِي لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا يَنْفَعُ فِي إسْقَاطِ مَظْلِمَةٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْإِبْرَاءِ، فَأَمَّا مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ إبْرَاءٍ جَدِيدٍ بَعْدَهَا. انْتَهَى.
فَفِي عِبَارَتِهَا هَذِهِ تَصْرِيحٌ بِالسُّقُوطِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُبَرَّأِ مِنْهُ الْوَاقِعِ مِنْ قَبْلُ فَيُوَافِقُ قَضِيَّةَ كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ. وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: يَسْتَحِلُّ مِمَّنْ تَعَرَّضَ لَهُ بِلِسَانِهِ أَوْ أَذَى قَلْبَهُ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فَإِنْ غَابَ أَوْ مَاتَ فَقَدْ فَاتَ أَمْرُهُ وَلَا يُدْرِكُ إلَّا بِكَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ لِتُؤْخَذَ عِوَضًا فِي الْقِيَامَةِ. وَيَجِبُ أَنْ يُفَصِّلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْصِيلُ مُضِرًّا لَهُ كَذِكْرِهِ عُيُوبًا يُخْفِيهَا فَإِنَّهُ يَسْتَحِلُّ مِنْهُ مُبْهَمًا، ثُمَّ تَبْقَى لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجْبُرْهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا يَجْبُرُهَا مَظْلِمَةُ الْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ. انْتَهَى.
وَأَوْجَبَ الْعَبَّادِيُّ فِي الْحَسَدِ الْإِخْبَارَ كَالْغِيبَةِ وَاسْتَبْعَدَهُ الرَّافِعِيُّ، وَصَوَّبَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَلْ وَلَا يُسْتَحَبُّ، قَالَ: وَلَوْ قِيلَ يُكْرَهُ لَمْ يَبْعُدْ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُفْهِمُهُ وَيُشْبِهُ حُرْمَتَهُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُحَلِّلُهُ وَأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ عَدَاوَةٌ وَحِقْدٌ وَأَذًى لِلْمُخْبِرِ، وَكَذَا لَوْ شَكَّ فَإِنَّ النَّفْسَ الزَّكِيَّةَ نَادِرَةٌ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ حَلَّلَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ لَزِمَهُ إخْبَارُهُ لِيَخْرُجَ مِنْ ظِلَامَتِهِ بِيَقِينٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بَعْدَ إيرَادِهِ كَلَامَ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ بِصِيغَةِ قِيلَ. فَإِنْ قِيلَ: تَضَافَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى ذَمِّ الْحَسَدِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَلَا طَرِيقَ لِلتَّوْبَةِ إلَّا ذَلِكَ فَيَقْوَى مَا قَالَهُ الْعَبَّادِيُّ. قُلْت: لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» يَقْتَضِي أَنَّهُ مَرْفُوعٌ وَاخْتَارَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ: الَّذِي نَعْتَقِدُهُ مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ الْهَمُّ وَغَيْرُهُ مَا لَمْ يَقُلْ أَوْ يَفْعَلْ عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْمَلُ أَحَادِيثُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ عَمَلُ جَارِحَةٍ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْكُفْرُ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ إجْمَاعًا.
وَأَمَّا أَحَادِيثُ الْحَسَدِ فَصَحِيحَةٌ وَكُلُّ عَمَلٍ سَيْءٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ بَاطِنًا كَانَ أَوْ ظَاهِرًا. وَأَمَّا الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ فَلَا نَعْلَمُ حَدِيثًا صَحِيحًا تَضَمَّنَهُ وَلَوْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثٌ تَضَمَّنَهُ حَمَلْنَاهُ عَلَى حَدٍّ اقْتَرَنَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَا مَرَّ عَنْ الْعَبَّادِيِّ بَعِيدٌ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ كَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَا سِيَّمَا إذَا غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ بِجِبِلَّتِهَا وَهُوَ كَارِهٌ لِمَا تَهْوَاهُ غَيْرُ رَاضٍ عَنْهَا فِي ذَلِكَ كَافٍّ لَهَا عَنْ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، بَلْ أَرْجُو أَنَّ جَزَاءَ ذَلِكَ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ السَّيِّئَةَ مِنْ أَجْلِ اللَّهِ فَجَاهَدَ نَفْسَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute