بعد أن قضى أبو يوسف يعقوب المنصور على ثورة بني غانية فكر ماذا يفعل في بلاد الأندلس حتى يعيد الأمر إلى نصابه؟ فرأى أن أكبر قوتين هما قوة قشتالة والبرتغال، لكن قوة البرتغال كانت أشد وأقوى، فعمل اتفاقية مع قشتالة عاهدهم فيها على عدم الحرب لمدة عشر سنوات، ثم اتجه إلى مملكة البرتغال، فتحارب معها حروباً شديدة وانتصر عليها أكثر من انتصار، وحررها بكاملها فعادت من جديد للمسلمين، لكن قبل أن يكتمل له تحريرها نقض ملك قشتالة العهد، وبدأ يعيث في الأرض فساداً، وينطلق على أراضي المسلمين مخالفاً الهدنة التي عقدها معه أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، فبعث ألفونسو الثامن -أحد أحفاد ألفونسو السادس - رسالة إلى يعقوب المنصور الموحدي يستفزه فيها بالقتال ويهدده، فمزق المنصور الموحدي خطاب ألفونسو الثامن، وكتب على جزء منه رداً أعاده مع رسوله؛ قال فيه: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، وأعلن الجهاد والاستنفار العام في كل ربوع المغرب والصحراء، ونشر للناس ما جاء في كتاب ألفونسو الثامن؛ ليحمسهم، وتسابق الناس للجهاد، وفي ذلك الوقت وقبله بسنوات جاءت أخبار من المشرق جعلت الناس متحمسين أكثر للجهاد، وهو انتصار صلاح الدين الأيوبي المشهور على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة في سنة (٥٨٣) من الهجرة، فحفز أبو يوسف يعقوب المنصور الناس للخروج للجهاد؛ فالناس تريد أن تكرر ما حدث في المشرق، قال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[المطففين:٢٦].
وفي سنة (٥٩٠هـ) يبدأ هذا الاستنفار، وفي سنة (٥٩١هـ) تنطلق الجيوش من المغرب العربي والصحراء وتعبر مضيق جبل طارق متجهة إلى بلاد الأندلس لتلتقي مع جيش الصليبيين في موقعة مشهورة جداً في التاريخ الإسلامي اسمها موقعة الأرك في (٩) شعبان سنة (٥٩١) من الهجرة.
والأرك حصن كبير موجود في جنوب طليطلة ويعتبر الحدود بين قشتالة والمسلمين في الأندلس في ذلك الوقت، أعد ألفونسو الثامن جيشاً استعان فيه بمملكتي ليون ونافار وبجيوش ألمانيا وإنجلترا وهولندا، حتى بلغ جيش الصليبيين في هذه الموقعة (٢٢٥) ألف صليبي، وكان معهم جماعات كبيرة من اليهود في الجيش، من أجل أن يشتروا من الصليبيين أسارى المسلمين، لأنهم متوقعون نصراً كبيراً جداً وسيكون فيه أسرى كثير من المسلمين، ومعلوم أن اليهود طوال التاريخ معهم أموال ضخمة، حتى في عصر دولة الأندلس كانت معهم أموال كثيرة، فأرادوا أن يشتروا بها المسلمين الأسرى من أجل يبيعوهم بعد ذلك في أوروبا.
أعد المنصور الموحدي رحمه الله جيشاً قوامه (٢٠٠) ألف مسلم، وهذا يبين لنا قدر الحمية التي كانت في قلوب أهل المغرب للقتال في أرض الأندلس، لما سمعوا بأخبار الجهاد وانتصارات المسلمين في حطين.
وأول ما دخل أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي منطقة الأرك عمل اجتماعاً كبيراً جداً أو مجلساً استشارياً يأخذ فيه كل آراء الحضور، وهذا نسق جديد من القيادة، فقد كانت من قبل قيادة دولة الموحدين متميزة بالفردية في الآراء، فهذا أول أمير يغير تماماً من سياسة دولة الموحدين، ويصبح رجلاً يعمل على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاستعان بكل الآراء المطروحة من قبل قواد الجيش، وأخذ برأي أبي عبد الله بن صناديد زعيم الأندلسيين ليس من قبائل المغرب البربرية، وكان شيئاً جديداً على دولة الموحدين التي كانت في كل حروبها في دولة الأندلس لا تعتمد إلا على جيوش المغرب فقط، لكن في موقعة الأرك بدأ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي يضم قوة الأندلسيين إلى قوة المغاربة، وقوة البربر القادمين من الصحراء، فاستعان بآرائهم، ووضع خطة شبيهة جداً بخطة موقعة الزلاقة، قسم فيها الجيش نصفين، جعل نصفه للقتال في المقدمة، وأخفى جزءاً كبيراً جداً من الجيش خلف التلال، وكان هو على رأس هذا الجيش المختفي خلف التلال، واختار أميراً عاماً للجيش هو كبير الوزراء أبو يحيى بن أبي حفص، وولى قيادة الأندلسيين لـ أبي عبد الله بن صناديد وذلك حتى لا يوغر صدور الأندلسيين فلا يتولى عليهم بربري أو مغربي.
وقسم المقدمة إلى مقدمة أولى تواجه جيش النصارى جعلها من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين، وهذه تنقسم إلى ميمنة من الأندلسيين والقلب من الموحدين والميسرة من العرب، ثم جعل من خلفهم مجموعة المتطوعين غير النظاميين، والهدف من وضع الجيوش النظامية في المقدمة لأجل تلقي الصدمة الأولى والضربة الأولى للنصارى، فيصدونهم صداً عظيماً يوقع الرهبة في قلوب النصارى، ويرفع من معنويات الجيش الإسلامي، أما المتطوعون غير النظاميين الذين ليست لهم كفاءة عالية جداً في القتال فوضعهم خلف الجيوش، ومكث هو خ