للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف أمراء الطوائف من سقوط طليطلة وحصار إشبيلية]

كانت كل بلاد الأندلس فيها أمراء للمؤمنين كما ذكرنا، فهذه كارثة حلت بالمسلمين، فقد سقطت طليطلة في سنة (٤٧٨) من الهجرة، ومنذ سقوطها لم تعد للمسلمين حتى الآن، وحوصرت إشبيلية مع أنها في الجنوب الغربي بعيدة عن بلاد قشتالة، والمعتمد على الله كاد أن يهلك لولا أن فتح الله عليه بفكرة التلويح بالاستعانة بالمرابطين، فكان أمراء الأندلس يعلمون أنه آجلاً أو عاجلاً ستسقط بقية المدن، فإذا كانت طليطلة أحصن مدينة في بلاد الأندلس قد سقطت، فإنه عما قريب ستسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وإشبيلية وكل حواضر الإسلام، فعملوا مؤتمر القمة الأندلسي الأول، وهو أول مؤتمر يجتمعون فيه للاتفاق على رأي، وقبل هذا المؤتمر لم يكن هناك مؤتمرات في السنوات السابقة؛ لأنه كان هنالك فرقة، بخلاف ما كانت عليه الأندلس أيام إمارة عبد الرحمن الناصر.

فاجتمع ما يقارب من اثنين وعشرين أمير في مؤتمر القمة الأندلسي الأول، وأخذوا ينددون بشدة بالاحتلال القشتالي لطليطلة، مع أن قشتالة دولة صديقة لهم، ولم يفكروا أن يرفعوا شكواهم إلى الله عز وجل، بل لربما أنهم يشتكون للبابا أو لملك فرنسا، أو لملك ليون أو لغيرهم من ملوك النصارى.

واجتمع الأمراء ومعهم العلماء، والعلماء يفهمون الموقف، ويفهمون أصل الهزيمة، فأشاروا عليهم بالجهاد؛ لأن في تاريخنا ما يثبت أن المسلمين إذا ارتبطوا بربهم وجاهدوا في سبيله انتصروا، حتى لو كانت قواتهم ضعيفة، لكن الأمراء رفضوا كلام العلماء، وقالوا: إن أهم شيء هو إيقاف نزيف الدماء، ونحن سنحاول أن نحل الموقف بشيء من السلام مع قشتالة، ونتفاوض مع ألفونسو السادس، على أن تترك له طليطلة أو يأخذ جزءاً منها ويترك لنا الباقي، ونعيش معاً بسلام، بهذا أشار الأمراء.

أما العلماء فرأوا أن الوضع مزر، ومن المحال أن يتغير الوضع بهذه الطريقة، فالأمراء يدفعون الجزية لمدة (٧٠) أو (٨٠) سنة، وقد ألفوا الهوان والذل، فليس من الممكن أبداً أن يجاهد هؤلاء الأمراء، فأشار عليهم العلماء برأي جديد، فقالوا: لا داعي أن نجاهد ما دام أنكم تخافون من الجهاد، لكن أرسلوا إلى دولة المرابطين لتأتي وتواجه النصارى في موقعة فاصلة، وتبعدهم عن أرضنا، فإنهم رجال أقوياء، فإنهم سيحاربون النصارى ونحن نتفرج على الأحداث! فهذا اقتراح معقول، لكن لم يقبله الأمراء؛ لأن دولة المرابطين قوية جداً، ويخشون منها أنها لو هزمت النصارى أنها ستحتل الأندلس، وما المانع لو أن دولة المرابطين احتلتها فإنها دولة إسلامية وفيها شرع إسلامي، ولم الشمل أفضل من بقاء الأندلس مفرقة ومشتتة أكثر من عشرين جزءاً، لكن رفض الأمراء ذلك الأمر وتجادلوا كثيراً، إلى أن منّ الله سبحانه وتعالى على رجل منهم وفتح عليه، وهو المعتمد على الله بن عباد، فقام وخطب في الحضور، ومما قاله في آخرها: ولا أحب أن ألعن على منابر المسلمين، لأنني لم أستعن بالمرابطين، ولأن أرعى الإبل في صحراء المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا.

فلما قال ذلك تحركت النخوة في قلوب البعض، فأول من وافق على هذا الأمر هو المتوكل بن الأفطس الذي أرسل رسالة إلى ألفونسو السادس ولم يدفع له الجزية في حياته، ثم قام عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة ووافق أيضاً على هذا، فهذه ثلاث ممالك إسلامية ضخمة: غرناطة وإشبيلية وبطليوس، وافقت على استجلاب دولة المرابطين لمحاربة النصارى ورفض الباقون، فجهزوا وفداً عظيماً مهيباً من العلماء والوزراء يذهب إلى بلاد المغرب ليستعين بملك المرابطين لينقذهم من بأس النصارى في بلاد الأندلس.

<<  <  ج: ص:  >  >>