ثانياً أمسك: عبد الرحمن الناصر رحمه الله زمام الإمارة وعنده ثقة شديدة بالله سبحانه وتعالى، ثم بنفسه أنه يستطيع أن يغير، فهو يثق بأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، ويثق في قوله سبحانه وتعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران:١٦٠]، ثم يثق في نفسه أنه من الممكن أن يغير، فلو كان في قلبه إحباط من التغيير، وأنه لا أمل له في الإصلاح ما استطاع أن يتحرك خطوة واحدة، فهو مع صغر سنه أخذ على عاتقه مهمة تعتبر من أثقل المهام في تاريخ الإسلام، فبهذه المؤهلات، وبهذه التربية من جده عبد الله بن محمد التربية الشاملة لكل فروع كمال الشخصية، وبهذه الثقة الشديدة بالله ثم بالنفس غير عبد الرحمن الناصر من التاريخ، وأول شيء فعله عندما تملك الأمور في الأندلس بدأ ينظف المراكز المرموقة الموجودة في البلد من وزراء وقواد للجيش من رموز الفساد التي عمت، وبدأ ينتقي من يتصف بالتقوى والورع ونظافة اليد وسعة العلم، ويعطيه المراكز القيادية في قرطبة، وهو لا يملك من كل بلاد الأندلس إلا قرطبة وما حولها من القرى، وقرطبة كانت من أكبر بلاد الأندلس على الإطلاق؛ لأنها كانت العاصمة لسنوات طويلة، فكانت مركزاً ثقيلاً وكبيراً، لكنها لم تكن تمثل أكثر من عشر الأندلس، فبدأ يصلح في هذه المنطقة الصغيرة، ثم أعلى من شأن العلماء جداً، ورضخ لهم رضوخاً كاملاً، وطبق الشرع الإسلامي بحذافيره على نفسه قبل أن يطبقه على شعبه، ولم يتنازل أبداً عن مسألة واحدة من مسائل الشارع الكريم، سواء في كتابه سبحانه وتعالى أو في سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان هو أول من طبق عليهم ذلك.
لما بنى عبد الرحمن الناصر قصراً من القصور، وحضر خطبة الجمعة، وكان الخطيب المنذر بن سعيد رحمه الله أكبر علماء قرطبة في ذلك الوقت، وكان شديداً في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حتى على الأمير عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فأسرف المنذر بن سعيد في الكلام وأفرط في التقريع على عبد الرحمن الناصر؛ لأنه بنى قصراً كبيراً، فقال عبد الرحمن الناصر عندما عاد إلى بيته: لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف علي وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسية في وعظي، فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني.
وأشار عليه رجل أن يخلع المنذر بن سعيد عن خطبة الجمعة، فقال الأمير عبد الرحمن الناصر: أمثل المنذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟ هذا والله لا يكون، وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه سبحانه وتعالى في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، وأبقاه على مكانته، وأكثر منذر بن سعيد رحمه الله من تقريع عبد الرحمن الناصر، وما عزله حتى مات.
فكان عبد الرحمن الناصر يربي أهل قرطبة على هذه المعاني، وكان في انصياعه للحق أفضل قدوة للناس جميعاً.