كان كل أمراء الممالك الموجودين في فترة أمراء الطوائف يدفعون الجزية لـ ألفونسو السادس إلا أمير مملكة بطليوس المتوكل بن الأفطس رحمه الله، وبالرغم من أن مملكته صغيرة لكن كانت عنده عزة، لكنه لم يستطع أن يفعل مثل ما فعل عبد الرحمن الناصر أو غيره من المصلحين، لكن كان لا يدفع الجزية للنصارى، والنصارى كانوا يعلمون أن هذا الرجل خارج عن الشرعية التي حكمت هذه البلاد في ذلك الوقت، وخارج عن المألوف، فإن كل الأمراء يدفعون الجزية، فأرسل له ألفونسو السادس رسالة شديدة اللهجة يطلب منه أن يدفع الجزية كما يدفعها إخوانه من المسلمين في الممالك الإسلامية المجاورة، فرد عليهم المتوكل رداً عجيباً، فأرسل رسالة حفظها لنا التاريخ حتى نعلم أن المؤمن في أشد عصور الانحدار والانهيار يكون له عزة إن أراد أن يكون له عزة.
يقول المتوكل بن الأفطس في رسالته: وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتواترة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون، بالتقوى يعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين.
أي: إن كان ظهر الروم في هذه الفترة وعلا شأنهم، فهذا الظهور المفاجئ للنصارى بإذن الله سبحانه وتعالى، ليعلم المؤمنين، وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين.
ثم يقول: أما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم فبذنوب مركوبة، ثم يضيف قائلاً: ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، أي: تذكر يا ألفونسو السادس أيام عبد الرحمن الناصر وأيام الحكم وأيام الحاجب المنصور، الذي أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى جدك إحدى بناته إليه، وهي أم عبد الرحمن المنصور الذي ذكرناه في آخر الدروس السابقة.
يقول: فجدك أعطى ابنته هدية للحاجب المنصور حتى يأمن جانبه، أما نحن إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استنجادنا، فما بينا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف؛ تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في ليلك ونهارك، وبالله تعالى وملائكته المسومين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلى إحدى الحسنيين: نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت، ويقطع بما أعددت.
وختم رسالته وأرسلها إلى ألفونسو السادس، وما استطاع ألفونسو السادس أن يرسل له جيشاً، لأن هؤلاء الرجال لا يستطيع أن يقاومهم أهل الأرض جميعاً، وإن كانوا قليلين، لكن عزة الإسلام ترفع من شأن صاحبها.
هذه صورة من الصور المشرقة في داخل أرض الأندلس، لكن عموم الأمراء في أرض الأندلس لم يكونوا على شاكلة المتوكل بن الأفطس، هذا الذي حصل في بطليوس، فأين إحدى وعشرون مملكة؟ أنا لا أستطيع الخوض في تفاصيل هذه الممالك، فالتفاصيل موجودة في الكتب، والدراسة لذلك واجبة، لكن سنعرض بعض الصور، حتى نعطي فكرة كيف كان الوضع في تلك البلاد من التدني للمسلمين؟