[تولية محمد بن محمد بن الأحمر على غرناطة بعد وفاة أبيه واستعانته ببني مرين على النصارى في معركة الدونونية وغيرها]
معظم أمراء بني الأحمر كان اسمهم محمداً، فـ محمد الملقّب بـ الفقيه لما تولى الأمور ونظر في أمر البلاد، وجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لا تستطيع أن تبقى في مواجهة قوة النصارى، فإن ألفونسو العاشر لما مات محمد بن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت فأسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، فاستعان محمد بن الأحمر الثاني الملقّب بـ الفقيه بـ يعقوب المنصور المريني رحمه الله في سنة (٦٧٣هـ)، فجهز المنصور جيشاً قوامه خمسة آلاف مقاتل، وكان هو قائد الجيش، ووصل مع جيشه إلى بلاد الأندلس وانضم إليه خمسة آلاف مقاتل من غرناطة، فالتقى المسلمون مع الصليبيين، خارج غرناطة بالقرب من قرطبة، وعدد المسلمين عشرة آلاف مقاتل، بينما عدد النصارى تسعون ألفاً من الصليبيين على رأسهم رجل من أكبر قواد مملكة قشتالة يُدعى دون ننيو ديلارا، والموقعة التي دارت بين المسلمين والصليبيين في ذلك المكان عُرفت بموقعة الدونونية نسبة إلى دون ننيو ديلارا الذي كان يقود قوات قشتالة في تلك الموقعة، تمت هذه الموقعة في سنة (٦٧٤هـ)، وقاد جيوش المسلمين المنصور المريني رحمه الله، وأخذ يحفّز الناس على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيرة: ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت سورها وأترابها، فبادروا إليها وجدوا في طلابها، وابذلوا النفوس في أفنانها، ألا وإن الجنة تحت ظلال السيوف، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:١١١] فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة، فمن مات منكم مات شهيداً، ومن عاش رجع إلى أهله سالماً غانماً مأجوراً حميداً، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فعانق الناس بعضهم بعضاً للوداع وبكوا جميعاً، وسبحان الله! وإذا بهذا العدد القليل وبهذه القيادة وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب حقق المسلمون انتصاراً باهراً عظيماً، وقُتل من النصارى ستة آلاف وأُسر ثمانية آلاف، وقُتل دون ننيو قائد قشتالة في تلك الموقعة، وغنم المسلمون غنائم هائلة لا تحصى، فما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة (٥٩١هـ) إلا في موقعة الدونونية سنة (٦٧٤هـ)، ثم انقسم جيش المسلمين بعد تلك الموقعة إلى نصفين: نصف توجه إلى جيّان وعلى رأسه ابن الأحمر ففتح جيان وانتصر عليهم، ونصف اتجه إلى إشبيلية وعلى رأسه المنصور فإذا به يحاصر إشبيلية ويصالح أهلها على الجزية، سبحان الله! رجل يحاصر إشبيلية بخمسة آلاف فقط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(نُصرت بالرعب مسيرة شهر) وهذا يدل على صلاح الرجال والجيوش.
وفي سنة (٦٧٧هـ) -أي: بعد ثلاث سنوات من تلك الموقعة- ينقض أهل إشبيلية العهد، فيذهب إليهم يعقوب المريني رحمه الله ويصالحونه من جديد على الجزية، بعد أن تُحاصر فترة من الزمان، ثم بعد ذلك يتجه إلى قرطبة ويحاصرها فترضخ له من جديد، فيحرر قرطبة وإشبيلية وجيّان، وهذا كله وعدد جيشه لا يزيد عن خمسة آلاف مقاتل، فهذا الأمر يستحق وقفات طويلة، وهذا الأمر ليس بمستغرب في التاريخ الإسلامي، بل المستغرب أن يُهزم جيش الناصر لدين الله من قبل في موقعة العقاب، وكان عدد المقاتلين خمسمائة ألف مسلم؛ لأنهم اعتمدوا على قوتهم ولم يعتمدوا على الله سبحانه وتعالى، فهذه سنن تتكرر في التاريخ ولنا فيها عبرة.
ينتصر المريني كل هذه الانتصارات، ويجمع غنائم لا حصر لها، ثم في منتهى الورع والزهد يُعطي كل الغنائم لأهل غرناطة ويعود إلى بلاد المغرب ولا يأخذ معه شيئاً، انظروا إلى التاريخ كيف يكرر نفسه، فقد فعل نفس فعل يوسف بن تاشفين رحمه الله بعد موقعة الزلاقة، فهؤلاء هم الرجال المنصورون.