بعد تاريخ الأندلس الطويل لأكثر من (٨٠٠) سنة، لا بد للمسلمين أن يقفوا معه وقفات كثيرة يأخذون العبرة ويأخذون الدرس، ويكررون ما حدث من العظماء، ويتجنبون ما حدث من الأقزام الذين أدوا إلى هذا الحال الذي وصلنا إليه في آخر عهود الأندلس.
سقطت بلاد الأندلس سقوطاً ليس بالمفاجئ، فقد استمرت أكثر من (٢٠٠) سنة، وصبرت البلاد كثيراً بمساندة بني مرين وبخلاف النصارى، لكن الذي حدث في النهاية هو ما كان متوقعاً، لا بد أن ننظر ما الذي حصل في بلاد الأندلس حتى أدى إلى هذا الانهيار؟ ولو تكرر في أي وقت من الأوقات أو في أي بلد من البلاد ستكون العاقبة هي نفس العاقبة.
عندما نحلل عوامل انحدار الأمم وضياع الأمم وسقوطها نجد أموراً متشابهة جداً في كل فترات الضعف في تاريخ الأندلس، ونجد أن هذه الأمور قد زادت بشدة في فترة غرناطة؛ ولذلك كان السقوط كاملاً وحاسماً، وهذه الأمور ما يلي: الأمر الأول: هو الإغراق بالترف، والركون الشديد إلى الدنيا وإلى الملذات والشهوات والخنوع والدعة والميوعة، فقد ترتبط دائماً فترات الهبوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات وميوعة شديدة جداً في شباب الأمة، وانحطاط كبير جداً في الأهداف، قال سبحانه وتعالى:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ}[الأنبياء:١١ - ١٣]، ارجعوا إلى قصر الحمراء، وسلموا غرناطة للنصارى، وتذوقوا الذل كما لم تعملوا للعزة وللكرامة.
انظر إلى الرجل الذي كان يرثي سقوط غرناطة، والشعر هو الإعلام الذي يحفز الناس على أفكار معينة، يقول هذا الشاعر: غرناطة يا أجمل المدن لن تسري بعد اليوم نغمات العود الناعمة في شوارعك المقمرة ولن تُسمع ألحان العشاق تحت قصورك العالية وستسقط دقات الصنوج المرحة التي كانت تتناغم فوق تلالك الخصبة وستقف الرقصات الجميلة تحت عرائشك الوريفة وا حسرتاه! لن يستمع عربي بعد اليوم إلى البلابل تصدح في مروجك الفسيحة ولن يستروح أريج الريحان وأزهار البرتقال في ربوعك المؤنسة لأن نور الحمراء أُطفئ إلى الأبد تخيل بعد هذا السقوط الشنيع لبلاد غرناطة يقف رجل ويرثي غرناطة بهذه الكلمات، وهذا ما يهمه في تلك البلاد، لا يهمه الثغور التي خرجت منها الجيوش تجاهد في سبيل الله، ولا يهمه المكتبات، ولا يهمه المساجد التي حوّلت إلى كنائس، ولا يهمه المسلمون الذين قُتلوا بأيدي الصليبيين، وهذا من انحطاط أهداف الشباب، حتى أصبح حلم الشاب في حياته أن يكلم فتاة من الفتيات، أو يخرج معها أو يبادلها حباً غير مشروع لا يرضاه لأخته ولا لابنته، ويصور الشعراء هذا الحب على أنه أسمى درجات الحب، فيضحي الرجل من أجله، ويسمو عنده فوق كل حب، فوق حب الله، وحب رسوله، وحب الدين، وحب الجهاد، وحب الوالدين، وحب الوطن، وحب الفضيلة، بل وقد يضحي بحياته انتحاراً إذا فارق محبوبته! أي انحدار هذا؟ وأي انحطاط هذا؟ وأي سفاهة؟ وأي تفاهة؟ قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:٢٤]، تذكروا ما فعله زرياب وأمثال زرياب في تاريخ الأندلس، وكيف قادوا الشباب إلى الميوعة التي أسقطت بلاد الأندلس إلى الأبد؟ الأمر الثاني: ترك الجهاد في سبيل الله، وهو أمر ملازم لمن أُغرق في الترف، الجهاد سنة ماضية إلى يوم القيامة؛ شرعها الله ليعيش المسلمون في عزة، ويموتون في عزة ثم يدخلون بعد ذلك الجنة ويخلدون فيها، أين أولئك الذين كانوا يجاهدون في حياتهم مرة أو مرتين كل سنة بصفة مستمرة ودائمة؟ أين يوسف بن تاشفين وأبو بكر بن عمر اللمتوني والحاجب المنصور الموحدي وعبد الرحمن الناصر؟ أما ملوك غرناطة ومن كان على شاكلتهم فقد تركوا الجهاد في سبيل الله، قال سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[التوبة:٣٨ - ٣٩].