[صفات عبد الرحمن الداخل ورجاحة عقله]
ذكر ابن حيان الأندلسي في وصف عبد الرحمن الداخل قال: كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغاً مفوهاً، شاعراً محسناً، سمحاً سخياً، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمعة والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، فهو مثال رائع للقائد المسلم، فإنه مع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه رحمه الله.
وهذه حياة المؤمنين الصادقين؛ فأعمال الخير دائماً أكثر من الأوقات، وقد يتعجب المرء أحياناً لما يجد شباباً في سن عبد الرحمن الداخل أو رجالاً أكبر من عبد الرحمن الداخل يقضون الساعات الطويلة أمام شاشات التلفاز وفي المقاهي والنوادي في غير مصلحة لا له ولا للمسلمين، وأتعجب أين وقت التعلم والتفكر في الدين والدنيا؟ أين وقت الصلاة والقيام والذكر والقرآن؟ أين وقت عيادة المرضى وشهود الجنائز وصلة الأرحام وبر الوالدين؟ أين وقت خدمة الناس والقيام على مصالحهم؟ أين وقت تتبع أخبار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ فـ عبد الرحمن الداخل كانت همومه عظيمة، ومع ذلك كان يقوم بكل هذا، ولو وكل أحداً ما لامه أحد، وكان مع شدته وحزمه وجهاده وقوته شاعراً محسناً رقيقاً مرهف المشاعر، ومع كونه ذا هيبة عظيمة عند أوليائه وأعدائه، فإنه يتبسط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويصلي بهم ومعهم، ومع كونه قليل الطمأنينة، وشديد الحذر لا يمنعه ذلك من الاختلاط بالناس، ومن السير في وسطهم دون حراس يعزلونه عن الشعوب، وكيف يمتنع من شعبه وهو المحبوب بينهم المقرب إلى قلوبهم؟ حتى خاطبه مقربوه في ذلك، وأشاروا عليه ألا يخرج وسط الناس كثيراً حتى لا يتبسطوا معه، لكنه تذكر عمر بن الخطاب حينما قال فيه القائل: حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر انظر إلى همته وقد أتى مطارداً مشرداً مطلوب الرأس تجري وراءه قوى الأرض جميعاً من عباسيين في المشرق وخوارج في المغرب، ونصارى في الشمال وثورات في الداخل، فإذا به يؤسس هذا البنيات القوي المتين، وهذه الدولة العظيمة ذات المجد التليد.
وكان رحمه الله يحافظ على شعور الناس جميعاً، يحكى أنه طلب منه أحد الناس أمراً أمام الناس، فقضاه له، ثم قال له: وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك؛ كيما نستر عليك؛ وذلك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية.
فكان يربي الناس على أن يرفعوا حاجتهم في البداية لرب العالمين سبحانه وتعالى، ويربيهم أن الله سبحانه وتعالى يملكهم جميعاً.
وكان يأمرهم بأن ترفع الحاجة إليه في رقعة، حتى يستر عليه حاجته، ولا يشمت فيه أعداؤه.
دخل عليه أحد الجنود في يوم انتصارهم على النصارى، فتحدث معه الجندي بأسلوب فيه إساءة أدب وفيه رفع صوت، فأخذ عبد الرحمن الداخل يعلمه، فقال له: يا هذا! إني أعلمك من جهل، إنه يشفع لك في هذا الموقف هذا النصر الذي نحن فيه، عليك بالسكينة والوقار، فإني أخاف أن تسيء الأدب في يوم ليس فيه نصر، فأغضب عليك، فإذا بالجندي يرد عليه رداً في منتهى الذكاء؛ فيقول له: أيها الأمير! عسى الله أن يجعل عند كل زلة مني نصراً لك فتغفر لي زلاتي، فقال الأمير عبد الرحمن الداخل رحمه الله: هذا ليس اعتذار جاهل، وقربه إليه ورفع من شأنه.
فقد ألغى الضغينة تماماً من قلبه، واستفاد منه لما رأى من ذكائه وقدرته على التصرف في مثل هذه الأمور.
وظل فترة طويلة يختبر أبناءه، أيهم يصلح للإمارة الابن الأكبر سليمان أم الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل، وبعد اختبارات كثيرة واستشارات واستخارات استقر رأيه على الابن الأصغر هشام بن عبد الرحمن الداخل فولاه العهد مع كونه أصغر من أخيه، حيث كان هشام يشبه بـ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في علمه وعمله وتقواه.
وظل عبد الرحمن الداخل يحكم البلاد من سنة (١٣٨) هجرية إلى سنة (١٧٢) هجرية، أي: أنه حكم قرابة (٣٤) عاماً.
كانت بداية تأسيس ما يسمى بعهد الإمارة الأموية في بلاد الأندلس، والتي استمرت من سنة (١٣٨) هجرية إلى سنة (٣١٦) هجرية، وهذه الفترة تقسم إلى ثلاث فترات رئيسية: الفترة الأولى: فترة قوة ومجد وحضارة وعز وهيمنة على ما حولها من المناطق، واستمرت مائة عام أي: من سنة ١٣٨ إلى (٢٣٨) هجرية.
الفترة الثانية: فترة ضعف، واستمرت (٦٢) سنة، أي: من سنة (٢٣٨) إلى سنة (٣٠٠).
الفترة الأخيرة: وهي من سنة (٣٠٠) إلى ما بعدها، وسنتحدث عنها بعد ذلك