للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُهَاجِرِينَ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، أَسْهَلَ شَيْءٍ وَأَيْسَرَهُ.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَتَتْهُمْ آيَاتٌ وَاضِحَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُمْ بَدَّلُوا، أَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ هُوَ الرُّكُونُ إِلَى الدُّنْيَا، وَالِاسْتِبْشَارُ بِهَا، وَتَزْيِينُهَا لَهُمْ، وَاسْتِقَامَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَكْبَرُ حَظٍّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَيَكْذِبُونَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَيَكْتُبُونَ مَا شاؤا لِيَنَالُوا حَظًّا خَسِيسًا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، وَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: زُيِّنَ، عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ لِلْفَصْلِ، وَلِكَوْنِ الْمُؤَنَّثِ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: زُيِّنَتْ، بِالتَّاءِ وَتَوْجِيهُهَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ مُؤَنَّثٌ، وَحُذِفَ الْفَاعِلُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَهُوَ: اللَّهُ تَعَالَى، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَبِي حَيْوَةَ: زَيَّنَ، عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ قَبْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.

وَتَزْيِينُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا لَهُمْ بِمَا وَضَعَ فِي طِبَاعِهِمْ مِنَ الْمَحَبَّةِ لَهَا، فَيَصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ مَيْلٌ وَرَغْبَةٌ فِيهَا، أَوْ بِالشَّهَوَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا فِيهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ «١» الْآيَةَ، وَإِنَّمَا أَحْكَمَهُ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ وَأَتْقَنَهُ وَحَسَّنَهُ، فَأَعْجَبَهُمْ بَهْجَتُهَا، وَاسْتَمَالَتْ قُلُوبَهُمْ فَمَالُوا إِلَيْهَا كُلِّيَّةً، وَأَعْطَوْهَا مِنَ الرَّغْبَةِ فَوْقَ مَا تَسْتَحِقُّهُ.

وقال أبوبكر الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نستطيع إلى أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَ لَنَا.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ زَيَّنَهَا لَهُمْ بِأَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى اسْتَحْسَنُوهَا وَأَحَبُّوهَا، أَوْ جَعَلَ إِمْهَالَ الْمُزَيَّنِ تَزْيِينًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ الْعَبْدِ، فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ التَّزْيِينَ عَلَى الْخِذْلَانِ، أَوْ عَلَى الْإِمْهَالِ، وَقِيلَ: الزَّيْنُ الشَّيْطَانُ، وَتَزْيِينُهُ بِتَحْسِينِ مَا قَبُحَ شَرْعًا، وَتَقْبِيحِ مَا حَسُنَ شَرْعًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّزْيِينَيْنِ: أَنَّ تَزْيِينَ اللَّهِ بِمَا رَكَّبَهُ وَوَضَعَهُ فِي الْجِبِلَّةِ، وَتَزْيِينَ الشَّيْطَانِ


(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>