للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ عِظَمِ النِّعْمَةِ وَكَثْرَةِ الْمِنَّةِ، وَإِنْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى مَا بَعْدَ التَّنْجِيَةِ مِنَ السَّوْمِ، أَوِ الذَّبْحِ، وَالِاسْتِحْيَاءِ، فَذَلِكَ ابْتِلَاءٌ عَظِيمٌ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ، يُقَالُ إِنَّهُ سَخَّرَهُمْ فَبَنَوْا سَبْعَةَ حَوَائِطَ جَائِعَةً أَكْبَادُهُمْ عَارِيَةً أَجْسَادُهُمْ، وَذَبَحَ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ أَلْفِ صَبِيٍّ. فَأَيُّ ابْتِلَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا وَكَوْنُهُ عَظِيمًا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ اتِّصَافُهُ بِالِاسْتِعْظَامِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ صَبَرَ فِي اللَّهِ عَلَى بَلَاءِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ صُحْبَةَ أَوْلِيَائِهِ. هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيلَ صَبَرُوا عَلَى مُقَاسَاةِ الضُّرِّ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَجَعَلَ مِنْهُمْ مُلُوكًا، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، انْتَهَى. وَلَمْ تَزَلِ النِّعَمُ تَمْحُو آثَارَ النِّقَمِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

نَأْسُوا بِأَمْوَالِنَا آثار رائدينا وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِذِكْرِ النِّعَمِ مُجْمَلَةً فِيمَا سَبَقَ، أَمَرَهُمْ بِذِكْرِهَا ثَانِيَةً مُفَصَّلَةً، فَبَدَأَ مِنْهَا بِالتَّفْضِيلِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ يَوْمٍ لَا خَلَاصَ فِيهِ، لَا بِقَاضٍ حَقٍّ، وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا فِدْيَةٍ، وَلَا نَصْرٍ، لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ نِعَمَهُ، وَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَهْيَهُ، وَكَانَ الْأَمْرُ بِالِاتِّقَاءِ مُهِمًّا هُنَا، لِأَنَّ مَنْ أُخْبِرَ بِأَنَّهُ فُضِّلَ عَلَى الْعَالَمِينَ رُبَّمَا اسْتَنَامَ إِلَى هَذَا التَّفْضِيلِ، فَأُعْلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَحْصِيلِ التَّقْوَى وَعَدَمِ الِاتِّكَالِ عَلَى مُجَرَّدِ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ مَنِ ابْتَدَأَكَ بِسَوَابِقِ نِعَمِهِ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَّقِيَ لَوَاحِقَ نِقَمِهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْإِنْجَاءِ الَّذِي بِهِ كَانَ سَبَبُ الْبَقَاءِ بَعْدَ شِدَّةِ اللَّأْوَاءِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ تَفَاصِيلَ النَّعْمَاءِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ «١» ، فَكَانَ تَعْدَادُ الْآلَاءِ مِمَّا يُوجِبُ جَمِيلَ الذِّكْرِ وَجَلِيلَ الثَّنَاءِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ النِّعَمِ، نِعْمَةً نِعْمَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]

وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)

الْفَرْقُ: الْفَصْلُ، فَرَقَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا: فَصَلَ، وَفَرَّقَ كَذَا: فَصَلَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ: الْفَرْقُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ، وَالْفَرِيقُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالتَّفَرُّقُ، وَالْفَرْقُ، الْمَفْرُوقُ،


(١) سورة البقرة: ٢/ ٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>