للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِصِدِّيقَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَبِيَّةٌ، إِذْ هِيَ رُتْبَةٌ لَا تَسْتَلْزِمُ النُّبُوَّةَ. قَالَ تَعَالَى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «١» وَمِنْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَكْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ بَشَرًا نُبُوَّتُهُ فَقَدْ كَلَّمَتِ الْمَلَائِكَةُ قَوْمًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ لِحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ:

الْأَقْرَعِ، وَالْأَعْمَى، وَالْأَبْرَصِ. فَكَذَلِكَ مَرْيَمُ.

كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سِمَةِ الْحُدُوثِ، وَتَبْعِيدٌ عَمَّا اعْتَقَدَتْهُ النَّصَارَى فِيهِمَا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ، لِأَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى الطَّعَامِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْعَوَارِضِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا جِسْمًا مُرَكَّبًا مَنْ عَظْمٍ وَلَحْمٍ وَعُرُوقٍ وَأَعْصَابٍ وَأَخْلَاطٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَصْنُوعٍ مُؤَلَّفٍ مُدَبَّرٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَجْسَامِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إِلَى قَوْلِهِمْ: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ كِنَايَةً عَنْ خُرُوجِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى سِمَاتِ الْحُدُوثِ. وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّغَذِّي الْمُفْتَقِرِ إِلَيْهِ الْحَيَوَانُ فِي قِيَامِهِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ الْإِلَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ «٢» وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى أَكْلِ الطَّعَامِ خُرُوجُهُ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنَ اللَّفْظِ مُسْتَعَارًا لَهُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ مُنَبِّهَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى سِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَأَنَّهُمَا مُشَارِكَانِ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَلَا مَوْضِعَ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْإِعْرَابِ.

انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أَيِ الْأَعْلَامَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى بُطْلَانِ مَا اعْتَقَدُوهُ، وَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْأَمْرُ لِأُمَّتِهِ فِي ضَلَالِ هَؤُلَاءِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ قَبُولِ مَا نُبِّهُوا عَلَيْهِ.

ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ لِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ: أَثَرٌ بِالنَّظَرِ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى أَوْضَحَ لَهُمُ الْآيَاتِ وَبَيَّنَهَا بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مَعَهَا لُبْسٌ، وَالْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ بِالنَّظَرِ فِي كَوْنِهِمْ يُصْرَفُونَ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ وَتَأَمُّلِهِ، أَوْ فِي كَوْنِهِمْ يَقْلِبُونَ مَا بُيِّنَ لَهُمْ إِلَى الضِّدِّ مِنْهُ، وَهَذَانِ أَمْرَا تَعْجِيبٍ. وَدَخَلَتْ ثُمَّ لِتَرَاخِي مَا بَيْنَ الْعَجَبَيْنِ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْعَجَبَ مِنْ تَوْضِيحِ الْآيَاتِ وَتَبْيِينِهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِ مَنْ بُيِّنَتْ لَهُ فَيَرَى إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ أَعْجَبَ مِنْ تَوْضِيحِهَا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَبْيِينِهَا تَبَيُّنُهَا لَهُمْ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا، فَكَوْنُهُمْ أُفِكُوا عنها أعجب.

[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٦ الى ٨١]

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)

وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)


(١) سورة النساء: ٤/ ٦٩.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>