للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ حَمَلَهُ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَالْإِعْجَابُ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْمُلْكِ، فَادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ مَعَ عِلْمِهِ. وَأَبُو جَهْلٍ، كَانَ يَتَحَقَّقُ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ، وَأَقَامَ عَلَى الْكُفْرِ. وَكَذَلِكَ الْأَخْنَسُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ كَفَرَ عِنَادًا، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِ الرُّسُلِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْكُفَّارَ إِلَى كَافِرٍ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، كَالدَّهْرِيَّةِ وَالْمُنْكِرِينَ رِسَالَةَ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكَافِرٌ بِقَلْبِهِ مُؤْمِنٌ بِلِسَانِهِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ كَافِرٌ بِلِسَانِهِ، كَفِرْعَوْنَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَلَا يُنْكَرُ الْكُفْرُ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَافِرٌ مُنَافِقٌ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَإِنَّمَا كَفَرَ لِاسْتِكْبَارِهِ وَاعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُحِقًّا فِي ذَلِكَ التَّمَرُّدِ، وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ «١» . قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: لَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ مُدَّةً فِي دَلَالِ طَاعَتِهِ يَخْتَالُ فِي مُرَادِ مُوَافَقَتِهِ، سَلَّمُوا لَهُ رُتْبَةَ التَّقَدُّمِ وَاعْتَقَدُوا فِيهِ اسْتِحْقَاقَ التَّخَصُّصِ، فَصَارَ أَمْرُهُ كَمَا قِيلَ:

وَكَانَ سِرَاجَ الْوَصْلِ أَزْهَرَ بَيْنَنَا ... فَهَبَّتْ بِهِ رِيحٌ مِنَ الْبَيْنِ فَانْطَفَا

سُئِلَ أَبُو الْفُتُوحِ أَحْمَدُ، أَخُو أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ عَنْ إِبْلِيسَ فَقَالَ: لَمْ يَدْرِ ذَلِكَ الْمِسْكِينُ أَنَّ أَظَافِيرَ الْقَضَاءِ إِذَا حَكَّتْ أَدْمَتْ وَقِسِيَّ الْقَدَرِ إِذَا رَمَتْ أَصَمَّتْ، ثُمَّ أَنْشَدَ:

وَكُنَّا وَلَيْلَى فِي صُعُودٍ مِنَ الْهَوَى ... فَلَمَّا تَوَافَيْنَا ثَبَتُّ وَزَلَّتِ

[[سورة البقرة (٢) : آية ٣٥]]

وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)

اسْكُنْ، أَقِمْ، وَمَصْدَرُهُ السُّكْنَى كَالرُّجْعَى، وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى السُّكُونِ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَرَكَةِ. وَكَانَ السَّاكِنُ فِي الْمَكَانِ لِلُبْثِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِيهِ غَيْرَ مُتَحَرِّكٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمَاكِنِ. رَغَدًا: أَيْ وَاسِعًا كثير الاعناء فِيهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمًا ... يَأْمَنُ الْأَحْدَاثَ فِي عَيْشٍ رَغَدْ

وَتَمِيمٌ تُسَكِّنُ الْغَيْنَ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ ثُلَاثِيٍّ حَلْقِيِّ الْعَيْنِ صَحِيحِ اللَّامِ يَجُوزُ فِيهِ تَحْرِيكُ عَيْنِهِ وَتَسْكِينُهَا، مِثْلَ: بَحْرٍ وَبَحَرٍ، وَنَهْرٍ وَنَهَرٍ، فَأُطْلِقَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَا وُضِعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّسْكِينُ نَحْوَ: السحر


(١) سورة ص: ٣٨/ ٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>