وَغَيْرُهُ: كَانُوا يَسِيرُونَ النَّهَارَ أَحْيَانًا وَاللَّيْلَ أَحْيَانًا، فَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَيُصْبِحُونَ حَيْثُ يُمْسُونَ، وَذَلِكَ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، وَكَانُوا فِي سَيَّارَةٍ لَا قَرَارَ لَهُمْ انْتَهَى. وَذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ مُقَاتِلِينَ، وَذَكَرُوا أَنَّ حِكْمَةَ التِّيهِ هُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «١» عُوقِبُوا بِالْقُعُودِ، فَصَارُوا فِي صُورَةِ الْقَاعِدِينَ وَهُمْ سَائِرُونَ، كُلَّمَا سَارُوا يَوْمًا أَمْسَوْا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصْبَحُوا فِيهِ. وَذَكَرُوا أَنَّ حِكْمَةَ كَوْنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَاهُوا فِيهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً هِيَ كَوْنُهُمْ عَبَدُوا الْعِجْلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، جُعِلَ عِقَابُ كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً فِي التِّيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَيُحْتَمَلُ أن يكون تِيهُهُمْ بِافْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، وَقِلَّةِ اجْتِمَاعِ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى رَمَاهُمْ بِالِاخْتِلَافِ، وَعَلِمُوا أَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَفَرَّقَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْفَحْصِ، وَأَقَامُوا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَاجْتِمَاعٍ حَتَّى كَمُلَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُرُوجِهِمْ، وَهَذَا تِيهٌ مُمْكِنٌ مُحْتَمَلٌ عَلَى عُرْفِ الْبَشَرِ. وَالْآخَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ إِنَّمَا هُوَ خَرْقُ عَادَةٍ وَعَجَبٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ مِنَ الله تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَدِمَ مُوسَى عَلَى دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَحَزِنَ عَلَيْهِمْ
انْتَهَى. فَهَذِهِ مَسْلَاةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَحْزَنَ عَلَى مَا أَصَابَ قَوْمَهُ، وَعَلَّلَ كَوْنَهُ لَا يَحْزَنُ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ فَاسِقُونَ بُهُوتٌ أَحِقَّاءُ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْفَاسِقِينَ مُعَاصِرُوهُ أَيْ: هَذِهِ فِعَالُ أَسْلَافِهِمْ فَلَا تَحْزَنْ أَنْتَ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ مَعَكَ وَرَدِّهِمْ عَلَيْكَ فَإِنَّهَا سَجِيَّةٌ خَبِيثَةٌ مَوْرُوثَةٌ عندهم.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٨]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
(١) سورة المائدة: ٥/ ٢٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute