للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوِقَاعِ وَالذِّئْبِ فِي الْقُوَّةِ عَلَى الْفَسَادِ وَالتَّمْزِيقِ، وَالْعَقْرَبِ فِي قُوَّةِ الْإِيلَامِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ شَرَفًا بَلِ الْمُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ مَمْقُوتٌ مُسْتَقْذَرٌ مُسْتَحْقَرٌ يُوصَفُ بِأَنَّهُ بَهِيمَةٌ، وَبِدَلِيلِ عَدَمِ الِافْتِخَارِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلِ الْعُقَلَاءُ يُخْفُونَهَا وَيَخْتَفُونَ عِنْدَ فِعَالِهَا وَيُكَنُّونَ عَنْهَا وَلَا يُصَرِّحُونَ بِهَا إِلَّا عِنْدَ الشَّتْمِ بِهَا، وَبِأَنَّ حَقِيقَةَ اللَّذَّاتِ دفع آلام وَبِسُرْعَةِ انْقِضَائِهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ خَسَاسَةُ هَذِهِ اللَّذَّاتِ، وَأَمَّا السَّعَادَاتُ الرُّوحَانِيَّةُ فَسَعَادَاتٌ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ مُقَدَّسَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ إِذَا تَخَيَّلُوا فِي إِنْسَانٍ كَثْرَةَ الْعِلْمِ وَشِدَّةَ الِانْقِبَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ بِالطَّبْعِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَخْدِمُونَهُ وَيَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَبِيدًا لَهُ وَأَشْقِيَاءَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا تَشَارُكَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَخَيْرَاتِ الْآخِرَةِ فِي التَّفْضِيلِ لَكَانَتْ خَيْرَاتُ الْآخِرَةِ أَفْضَلَ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَيْهَا مَعْلُومٌ قَطْعًا وَخَيْرَاتُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَعْلُومَةً بَلْ وَلَا مَظْنُونَةً، فَكَمْ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ بُكْرَةَ يَوْمٍ أَمْسَى تَحْتَ التُّرَابِ آخِرَهُ وَكَمْ مُصْبِحٍ أَمِيرًا عَظِيمًا أَمْسَى أَسِيرًا حَقِيرَا؟ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ سُرُورِ يَوْمٍ يَوْمًا آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَنْتَفِعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا جَمَعَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالطَّيِّبَاتِ وَاللَّذَّاتِ؟ بِخِلَافِ مُوجِبِ السَّعَادَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ خَالِيًا مِنْ شَوَائِبِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحْزِنَاتِ وَهَبْ أَنَّهُ انْتَفَعَ فِي الْغَدِ فَإِنَّهَا تنقضي ويحزم عِنْدَ انْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انتقالا

فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية، وأيضا ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وحفص أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء خطاب مواجهة لِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ من منكري البعث. وقرأ الباقون بالياء عودا على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدّنيا.

وقيل: أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>