سُخْرِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَسُخْرِيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ عَالُونِ عَلَيْهِمْ، مُتَطَاوِلُونَ، يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، كَمَا كَانَ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُلُوِّ حَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فِي كَرَامَةٍ، وَالْكُفَّارَ فِي هَوَانٍ.
وَجَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُصَدَّرَةً بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا لِيَظْهَرَ أَنَّ السَّعَادَةَ الْكُبْرَى لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي، وَلِتَبْعَثَ الْمُؤْمِنَ عَلَى التَّقْوَى، وَلِيَزُولَ قَلَقُ التَّكْرَارِ لَوْ كَانَ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا، لِأَنَّ قَبْلَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا.
وَانْتِصَابُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الْوَاقِعِ خَبَرًا، أَيْ: كَائِنُونَ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا فَهِمُوا مِنْ فَوْقَ أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ بَيْنَ مَنْ يُخْبَرُ بِهَا عَنْهُ، وَبَيْنَ مَنْ تُضَافُ هِيَ إِلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو فِي المنزل، حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ:
زَيْدٌ أَعْلَى مِنْ عَمْرٍو فِي الْمَنْزِلَةِ، احْتَاجُوا إِلَى تَأْوِيلِ عَالٍ وَأَعْلَى مِنْهُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ التَّحْمِيلَاتِ، حِفْظٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَلِيلِ، فِي أَنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا يَجِيءُ فِيمَا فِيهِ شَرِكَةٌ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ حَيْثُ لَا اشْتِرَاكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ لَا نَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ هُوَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَالْبَصْرِيُّونَ يَمْنَعُونَ: زَيْدٌ أَحْسَنُ إِخْوَتِهِ، وَالْكُوفِيُّونَ يُجِيزُونَهُ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ فِي: فَوْقَ، فَلَا نَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِأَعْلَى، وَأَعْلَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، نَقَلَ الْخِلَافَ إِلَيْهَا، وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ فَوْقَ لَا تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ فِي التَّفْضِيلِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْعُلُوِّ، فَإِذَا أُضِيفَتْ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ فِيهِ عُلُوٌّ، وَكَمَا أَنَّ تَحْتَ مُقَابِلَتَهَا لَا تَدُلُّ عَلَى تَشْرِيكٍ فِي السُّفْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِهَا، وَلَا نقول: إنها مرادفة لأسفل، لِأَنَّ أَسْفَلَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهَا بمن، كَقَوْلِهِ: الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، كَمَا أَنَّ أَعْلَى كَذَلِكَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا كَانَ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَالَّذِينَ اتَّقَوْا عَالُوهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي عُلُوٍّ، بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ الْعُلُوَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُتَّقِينَ، وَغَيْرُهُمْ سَافِلُونَ، عَكْسُ حَالِهِمَا فِي الدُّنْيَا حَيْثُ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ.
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ اتِّصَالُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ تَفْضِيلِ الْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِهِمْ، فَقِيلَ: هَذَا الرِّزْقُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا يُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِيهَا مِنَ الثَّوَابِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بِغَيْرِ حِسَابٍ، أَيْ بِغَيْرِ نِهَايَةٍ، لِأَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى خَارِجٌ عَنِ الْحِسَابِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَهَا ثَوَابٌ وَبَعْضَهَا تَفْضِيلٌ مَحْضٌ، فَهُوَ بِغَيْرِ حِسَابٍ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute