للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَوْنُ الْبَاءِ لَهَا مَعْنًى أَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا زَائِدَةً، وَكَوْنُ الْمَصْدَرِ بَاقِيًا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْلَى مِنْ كَوْنِهِ مَجَازًا عَنِ اسْمِ فَاعِلٍ أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ وَكَوْنُهُ مُضَافًا لِغَيْرٍ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُضَافًا لِذِي مَحْذُوفَةً، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً «١» أَيْ: مُحْسَبًا أَيْ: كَافِيًا مِنْ: أَحْسَبَنِي كَذَا، إِذَا كَفَاكَ، وَبِغَيْرِ حِسَابٍ مَعْنَاهُ الْعَدُّ، أَوِ الْمُحَاسَبَةُ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَيْهِمَا إِنْ كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَالِاخْتِلَافُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَتَيِ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي الْآخِرَةِ، فَبِغَيْرِ حِسَابٍ فِي التَّفَضُّلِ الْمَحْضِ، وَعَطَاءً حِسَابًا فِي الْجَزَاءِ الْمُقَابِلِ لِلْعَمَلِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ طَرَفَيْهِمَا: فَبِغَيْرِ حِسَابٍ فِي الدُّنْيَا إِذْ يَرْزُقُ الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ وَلَا يُحَاسِبُ الْمَرْزُوقِينَ عَلَيْهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يُحَاسِبُ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ مَنْ قَامَا بِهِ، فَبِغَيْرِ حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ، أَيْ: يَرْزُقُ وَلَا يُحَاسِبُ عَلَيْهِ، أَوْ وَلَا يَعُدُّ عَلَيْهِ، وَحِسَابًا صِفَةٌ لِلْعَطَاءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مِنْ جِهَةِ مَنْ قَامَا بِهِ، وَزَالَ بِذَلِكَ التَّعَارُضُ.

وَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَوَاخِرِ أَقْوَالِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ الْأَمْرَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، أَيْ: قَلَائِلَ، وَدَلَّ الذِّكْرُ عَلَى الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ هُوَ عِنْدَ الرَّمْيِ، وَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي أَيَّامٍ، وَهُوَ: جَمْعٌ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي التَّعْجِيلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ يَوْمَيْنِ مِنْهَا، فَسَقَطَ الذِّكْرُ الْمُخْتَصُّ بِهِ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ حَالَ الْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ، وَإِنْ كَانَ حَالُ مَنْ تَأَخَّرَ أَفْضَلَ، وَكَانَ بَعْضُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ تَعَجَّلَ أَثِمَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ تَأَخَّرَ أَثِمَ، فَلِذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْإِثْمَ عَنْهُمَا، إِذْ كَانَ التَّعَجُّلُ وَالتَّأَخُّرُ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ ارْتِفَاعَ الْإِثْمِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى.

ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَتَكْرَارِ الْأَمْرِ بِهَا فِي الْحَجِّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَامِلَ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالتَّقْوَى، وَهُوَ كَوْنُهُ تعالى شديد العقاب لمن لَمْ يَتَّقِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى تَنْقَسِمُ إِلَى مَنْ يُظْهِرُهَا بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى خِلَافِهَا، وَإِلَى مَنْ تَسَاوَى سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ فِي التَّقْوَى، قَسَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى قِسْمَيْنِ، فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ:

يُؤْنِقُكَ وَيَرُوقُ لَفْظُهُ، يُحَسِّنُ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الْمُوَافَقَةِ وَالطَّوَاعِيَةِ ظَاهِرًا، ثُمَّ لَا يَكْتَفِي بِمَا زَوَّرَ وَنَمَّقَ مِنْ كَلَامِهِ اللَّطِيفِ حَتَّى يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَيَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ سَرِيرَتَهُ مِثْلُ عَلَانِيَتِهِ، وَهُوَ إِذَا خَاصَمَ كَانَ شَدِيدَ الْخُصُومَةِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ تَقَلَّبَ في نواحي


(١) سورة النبإ: ٧٨/ ٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>