للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ الْجِهَادَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَقَّ عَلَيْهِمْ، وَكَرِهُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: كُتِبَ، أَنَّهُ فُرِضَ عَلَى الْأَعْيَانِ، كَقَوْلِهِ:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «١» كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «٢» إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «٣» وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، قَالَ: فُرِضَ الْقِتَالُ عَلَى أَعْيَانِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ، وَقُيِّمَ بِهِ، صَارَ عَلَى الْكِفَايَةِ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: أَوَّلُ فَرْضِهِ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْكِفَايَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِلَى أَنْ نَزَلَ بِسَاحَةِ الْإِسْلَامِ، فَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ.

وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْجِهَادُ تَطَوُّعٌ، وَيُحْمَلُ عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ، وَقَدْ قِيمَ بِالْجِهَادِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ تَطَوُّعٌ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كُتِبَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى النَّمَطِ الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا مِنْ لَفْظِ: كُتِبَ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: كَتَبَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِنَصْبِ الْقِتَالِ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ فِي كُتِبَ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ: لَمَّا ذَكَرَ مَا مَسَّ مَنْ تَقَدَّمَنَا مِنَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْبَلَايَا، وَأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعْرُوفٌ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُبْتَلَى بِهِ الْمُكَلَّفُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْفَاقَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ، فَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ بِالْمَالِ، انْتَقَلَ إلى أعلى مِنْهُ وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الدِّينُ، وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ.

وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أَيْ مَكْرُوهٌ، فَهُوَ مِنْ باب النقض بمنى الْمَنْقُوضِ، أَوْ ذُو كُرْهٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَصْدَرُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَوْ لِمُبَالَغَةِ النَّاسِ فِي كَرَاهَةِ الْقِتَالِ، جُعِلَ نَفْسَ الْكَرَاهَةِ.

وَالظَّاهِرُ عَوْدُ: هُوَ، عَلَى الْقِتَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يعود عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ: كُتِبَ، أَيْ: وَكَتْبُهُ وَفَرْضُهُ شَاقٌّ عَلَيْكُمْ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَيْ: وَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ بِالطَّبِيعَةِ، أَوْ مَكْرُوهٌ قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ.

وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: كَرْهٌ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَدْلُولِ الْكَرْهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُفْرَدَاتِ.


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨٣.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٧٨.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>