لِلْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَنَاكَحَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ الْعِزَّ، كَمَا سَلَبَ مُوقِدَ النَّارِ ضَوْءَهُ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ، أَيْ فِي عَذَابٍ.
الثَّانِي: إِنَّ ذَهَابَ نُورِهِمْ بِإِطْلَاعِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَقَدْ ذَهَبَ مِنْهُمْ نُورُ الْإِسْلَامِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ كُفْرِهِمْ. الثَّالِثُ: أَبْطَلَ نُورَهُمْ عِنْدَهُ، إِذْ قُلُوبُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا أَظْهَرُوا، فَهُمْ كَرَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ طُفِئَتْ فَعَادَ فِي ظُلْمَةٍ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي بنورهم عائدا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ عَادَ عَلَى الْمُسْتَوْقِدِينَ، فَذَهَابُ النُّورِ هُوَ إِطْفَاءُ النَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَيَكُونُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ فِعْلٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ: لَمَّا أَضَاءَتِ النَّارُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا عَاصِفًا فَأَطْفَأَهَا، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يَأْتِي عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنها نَارٌ حَقِيقَةٌ أَوْقَدَهَا أَهْلُ الْفَسَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِهَا وَبِنُورِهَا إِلَى فَسَادِهِمْ وَعَبَثِهِمْ، فَأَخْمَدَ اللَّهُ نَارَهُمْ وَأَضَلَّ سَعْيَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذِكْرَ النَّارِ هُنَا مَثَلٌ لَا حَقِيقَةٌ لَهَا، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَارُ الْعَدَاوَةِ وَالْحِقْدِ، فَإِذْهَابُ اللَّهِ لَهَا دَفْعُ ضَرَرِهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِذَا كَانَتِ النَّارُ مَجَازِيَّةً، فَوَصْفُهَا بِالْإِضَاءَةِ مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ هُوَ مِنْ مَجَازِ التَّرْشِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَإِذْهَابُ النُّورِ أَبْلَغُ مِنْ إِذْهَابِ الضَّوْءِ لِانْدِرَاجِ الْأَخَصِّ فِي نَفْيِ الْأَعَمِّ، لَا الْعَكْسِ. فَلَوْ أَتَى بِضَوْئِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ ذَهَابُ النُّورِ.
وَالْمَقْصُودُ إِذْهَابُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ؟
وَإِضَافَةُ النُّورِ إِلَيْهِمْ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ، إِذْ إِضَافَتُهُ إِلَى النَّارِ هُوَ الْحَقِيقَةُ، لَكِنْ مِمَّا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ صَحَّ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي ظُلُمَاتٍ بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو السَّمَّاكِ: بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ قَوْمٌ: بِفَتْحِهَا. وَهَذِهِ اللُّغَى الثَّلَاثُ جَائِزَةٌ فِي جَمْعِ فُعْلَةٍ الِاسْمُ الصَّحِيحُ الْعَيْنِ، غَيْرُ الْمُضَعَّفِ، وَلَا الْمُعَلِّ اللَّامِ بِالتَّاءِ. فَإِنِ اعْتُلَتْ بِالْيَاءِ نَحْوَ: كُلِّيَّةٍ، امْتَنَعَتِ الضَّمَّةُ، أَوْ كَانَ مُضَعَّفًا نَحْوَ: دُرَّةٍ، أَوْ مُعْتَلَّ الْعَيْنِ نَحْوَ: سُورَةٍ، أَوْ وَصْفًا نَحْوَ: بُهْمَةٍ امْتَنَعَتِ الْفَتْحَةُ وَالضَّمَّةُ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: إِنَّ ظُلَمَاتٍ، بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ ظُلَمٍ، الَّذِي هُوَ جَمْعُ ظُلْمَةٍ. فَظُلُمَاتٌ عَلَى هَذَا جَمْعُ جَمْعٍ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْفَتْحِ تَخْفِيفًا أَسْهَلُ مِنِ ادِّعَاءِ جَمْعِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْعُدُولَ إِلَيْهِ قَدْ جَاءَ فِي نَحْوِ: كِسْرَاتٍ جَمْعُ كِسْرَةٍ جَوَازًا، وَإِلَيْهِ فِي نَحْوِ: جَفْنَةٍ وُجُوبًا.
وَفُعْلَةُ وَفِعْلَةُ أَخَوَاتٌ، وَقَدْ سُمِعَ فِيهَا الْفَتْحُ بِالْقُيُودِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ. وَقَرَأَ الْيَمَانِيُّ: فِي ظُلْمَةٍ، عَلَى التَّوْحِيدِ لِيُطَابِقَ بَيْنَ إِفْرَادِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَقِرَاءَةِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ ظُلْمَةٌ تَخُصُّهُ، فَجُمِعَتْ لِذَلِكَ. وَحَيْثُ وَقَعَ ذِكْرُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ عَلَى هَذَا الْمَنْزَعِ مِنْ إِفْرَادِ النُّورِ وَجَمْعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute