وَقَبَّحَ الْمِنَّةَ وَنَهَى عَنْهَا، ثم دكر الْقَصْدَ فِيهَا مِنَ الرِّيَاءِ وَابْتِغَاءِ رِضَا اللَّهِ، ذَكَرَ هُنَا وَصْفَ الْمُنْفِقِ مِنَ الْمُخْتَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ: طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ هُوَ الْجَيِّدُ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ الرَّدِيءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ طيبات، أي: الحلال والخبيث الْحَرَامَ،
وَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ مِنْ طَيِّباتِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِهِ لَا الْحِلُّ وَلَا الْجَيِّدُ، لَكِنْ يَكُونُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْفِقُوا مِمَّا كَسَبْتُمْ، فَهُوَ حَضٌّ عَلَى الْإِنْفَاقِ فَقَطْ، ثُمَّ دَخَلَ ذِكْرُ الطَّيِّبِ تَبْيِينًا لِصِفَةِ حُسْنِهِ فِي الْمَكْسُوبِ عَامًّا، وَتَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ. كَمَا تَقُولُ: أَطْعَمْتُ فُلَانًا مِنْ مَشْبَعِ الْخُبْزِ، وَسَقَيْتُهُ مِنْ مَرْوِيِّ الْمَاءِ، وَالطَّيِّبُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ يَعُمُّ الْجَوْدَةَ، وَالْحِلَّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْمُؤْمِنِ مِنْ خَبِيثٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: مَا كَسَبْتُمْ عُمُومُ كُلِّ مَا حَصَلَ بِكَسْبٍ مِنَ الْإِنْسَانِ الْمُنْفِقِ، وَسِعَايَةٍ وَتَحْصِيلٍ بِتَعَبٍ بِبَدَنٍ، أَوْ بِمُقَاوَلَةٍ فِي تِجَارَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمُلْكُ مِنْ حَادِثٍ أَوْ قَدِيمٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ الْمَوْرُوثُ لِأَنَّهُ مَكْسُوبٌ لِلْمَوْرُوثِ عَنْهُ.
الضمير فِي: كَسَبْتُمْ، إِنَّمَا هُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَخْصِيصُ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْمَوْرُوثِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِمَا يَكْتَسِبُهُ أَضَنُّ بِهِ مِمَّا يَرِثُهُ، فَإِذْنُ الْمَوْرُوثِ مَعْقُولٌ مِنْ فَحْوَاهُ. انْتَهَى. وَهُوَ حَسَنٌ.
وَ: مِنْ، لِلتَّبْعِيضِ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ، وَ: مَا، فِي مَا كَسَبْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَيُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِالْمَفْعُولِ، تَقْدِيرُهُ: مِنْ طَيِّبَاتِ كَسْبِكُمْ، أَيْ: مَكْسُوبِكُمْ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الطَّيِّبَةِ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِيهَا، مُفْتَقِرٌ إِلَى الْبَيَانِ بِذِكْرِ الْمَقَادِيرِ، فَيَصِحُّ الْاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الْحَقِّ فِيمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، نَحْوُ: أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَصَدَقَةِ الْخَيْلِ، وَزَكَاةِ مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْحُلِيِّ الْمُبَاحِ اللَّبْسِ غَيْرِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ، وَالْعُرُوضِ، وَالْغَنَمِ، وَالْبَقَرِ الْمَعْلُوفَةِ، وَالدَّيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute