وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَمَنْ يُؤْتِهُ الْحِكْمَةَ، بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْمَفْعُولُ الأول: ليؤت، وَالْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ضَمِيرٌ مَسْتَكِنٌ فِي: يُؤْتَ، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَكَرَّرَ ذِكْرُ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يُضْمِرْهَا لِكَوْنِهَا فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى، وَلِلِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِهَا وَفَضْلِهَا وَخِصَالِهَا.
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ الْمَاضِي الْمَصْحُوبُ: بِقَدْ، الْوَاقِعُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ، مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى. كَهَذَا. فَهُوَ الْجَوَابُ حَقِيقَةً، وَقَدْ يَكُونُ مَاضِيَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ «١» فَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَاقِعٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مُسْتَقْبَلٌ، وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مُسْتَقْبَلٌ، فَالْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ مَحْذُوفٌ، وَدَلَّ هَذَا عَلَيْهِ، التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَتَسَلَّ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَحَالُكَ مَعَ قَوْمِكَ كَحَالِهِمْ مَعَ قَوْمِهِمْ.
قال الزمخشري: وخيرا كَثِيرًا، تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَقَدْ أُوتِيَ أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ.
انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَسْتَدْعِي أَنَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَنْكِيرَ تَعْظِيمٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَتَقْدِيرُهُ، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، إِنَّمَا هُوَ على أن يجعل خير صِفَةً لِخَيْرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا، أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ. وَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ إِذَا وُصِفَ بِأَيٍّ، فَإِنَّمَا تُضَافُ لِلَفْظٍ مِثْلِ الْمَوْصُوفِ، تَقُولُ: مررت برجل أي رجل كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
دَعَوْتُ امْرَأً، أَيَّ امْرِئٍ، فَأَجَابَنِي ... وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلَاذًا وَمَوْئِلَا
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ وَصْفُ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ؟ أَيْ: إِذَا كَانَتْ صِفَةً، فَتَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَيِّ رَجُلٍ كَرِيمٍ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ يَحْتَاجُ جَوَابُ ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَأَيْضًا فَفِي تَقْدِيرِهِ: أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ، حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةُ أَيَّ الصِّفَةِ مَقَامَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي نَدُورٍ، لَا تَقُولُ: رَأَيْتُ أَيَّ رَجُلٍ، تُرِيدُ رَجُلًا، أَيَّ رَجُلٍ إِلَّا فِي نَدُورٍ. نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِذَا حَارَبَ الْحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ ... عَلَاهُ بِسَيْفٍ كُلَّمَا هُزَّ يَقْطَعُ
يُرِيدُ: مُنَافِقًا، أَيَّ مُنَافِقٍ، وَأَيْضًا: فَفِي تَقْدِيرِهِ: خَيْرًا كَثِيرًا أيّ كَثِيرٍ، حَذَفَ أَيَّ الصِّفَةَ،
(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute