الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حَالُهُمْ مَعَ مَثَلِ ذَلِكَ الرَّعْدِ؟ فَقِيلَ:
يَجْعَلُونَ، وَقِيلَ: الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ وَهُوَ الْجَرُّ لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَوِي الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَاعِلِينَ، وأجاز بعضهم أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ الْهَاءُ فِي فِيهِ. وَالرَّاجِعُ عَلَى ذِي الْحَالِ مَحْذُوفٌ نَابَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَنْهُ التَّقْدِيرُ مِنْ صَوَاعِقِهِ.
وَأَرَادَ بِالْأَصَابِعِ بَعْضَهَا، لِأَنَّ الأصبع كُلَّهَا لَا تُجْعَلُ فِي الْأُذُنِ، إِنَّمَا تُجْعَلُ فِيهَا الْأُنْمُلَةُ، لَكِنَّ هَذَا مِنَ الِاتِّسَاعِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ كُلٍّ عَلَى بَعْضٍ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لِفَرْطِ مَا يَهُولُهُمْ مِنْ إِزْعَاجِ الصَّوَاعِقِ كَأَنَّهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِالْأُنْمُلَةِ، بَلْ لَوْ أمكنهم السد بالأصبع كُلِّهَا لَفَعَلُوا، وَعُدِلَ عَنِ الِاسْمِ الْخَاصِّ لِمَا يُوضَعُ فِي الْأُذُنِ إِلَى الِاسْمِ الْعَامِّ، وَهُوَ الْأُصْبُعُ، لِمَا فِي تَرْكِ لَفْظِ السَّبَّابَةِ مِنْ حُسْنِ أَدَبِ الْقُرْآنِ، وَكَوْنِ الْكِنَايَاتِ فِيهِ تَكُونُ بِأَحْسَنَ لَفْظٍ، لِذَلِكَ مَا عُدِلَ عَنْ لَفْظِ السَّبَّابَةِ إِلَى الْمِسْبَحَةِ وَالْمُهَلِّلَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَلَمْ تَأْتِ بِلَفْظِ الْمِسْبَحَةِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ، لَمْ يَتَعَارَفْهَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ العهد، وإنما أحدثت بعدا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ: مِنَ الصَّوَاقِعِ، وقد تقدم أنها لغة تَمِيمٍ، وَأَخْبَرْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَقْلُوبِ، وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَالْوَضْعِ كَأَنَّهُ قَالَ: يَضَعُونَ أَصَابِعَهُمْ، وَمَنْ تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَجْعَلُونَ، وَهِيَ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَجْلِ الصَّوَاعِقِ وَحَذَرَ الْمَوْتِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَشُرُوطُ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ مُتَّحِدٌ بِالْعَامِلِ فَاعِلًا وَزَمَانًا، هَكَذَا أَعْرَبُوهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الصَّوَاعِقِ هُوَ فِي الْمَعْنَى مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مَعْطُوفًا لَجَازَ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «١» وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَوْلِ الرَّاجِزِ:
يَرْكَبُ كُلَّ عَاقِرٍ جُمْهُورِ ... مَخَافَةً وَزَعَلَ الْمَحْبُورِ
وَالْهَوْلَ مِنْ تَهَوُّلِ الْهُبُورِ وَقَالُوا أَيْضًا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أَيْ يَحْذَرُونَ حَذَرَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: حَذَارَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَاذَرَ، قَالُوا وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ.
الْإِحَاطَةُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُونَهُ، كَمَا لَا يَفُوتُ الْمُحَاطَ الْمُحِيطُ بِهِ، فَقِيلَ: بالعلم، وَقِيلَ: بِالْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: بِالْإِهْلَاكِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّهَا دخلت بين
(١) سورة البقرة: ٢/ ٢٠٧ و ٢٦٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute