للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ لَمَّا نَهَى عَنِ امْتِنَاعِ الشُّهُودِ إِذَا مَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ، نَهَى أَيْضًا عَنِ السَّآمَةِ فِي كِتَابَةِ الدَّيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ ضَبْطٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى أَنْ لَا يَقَعَ النِّزَاعُ، لِأَنَّهُ مَتَى ضُبِطَ بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ وَهْمٌ فِيهِ أَوْ إِنْكَارٌ، أَوْ مُنَازَعَةٌ فِي مِقْدَارٍ أَوْ أَجَلٍ أَوْ وَصْفٍ، وَقُدِّمَ الصَّغِيرُ اهْتِمَامًا بِهِ، وَانْتِقَالًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. وَنَصَّ عَلَى الْأَجَلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِهِ، فَكُتِبَ كَمَا يُكْتَبُ أَصْلُ الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى ذِكْرِ الْمَحَلِّ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الدَّيْنِ وَمِقْدَارِهِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ بَعْضُ أَوْصَافِهِ، وَالْأَجْلُ هُنَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُتَدَايِنَانِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ.

وَقَالَ الْمَاتِرِيدِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ السَلَمِ فِي الثِّيَابِ، لِأَنَّ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُوزَنُ لَا يُقَالُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِيِّ وَالذَّرْعِيِّ. انْتَهَى.

وَلَا يَظْهَرُ مَا قَالَ: إِذِ الصِّغَرُ، والكبر هُنَا لَا يُرَادُ بِهِ الْجُرْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مِقْدَارٍ وَيْبَةٍ، أَوْ فِي مِقْدَارِ عِشْرِينَ أَرَدْبًا، صَدَقَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ حُقٌّ صَغِيرٌ وَدَيْنٌ صَغِيرٌ، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّهُ دَيْنٌ كَبِيرٌ وَحُقٌّ كَبِيرٌ.

قِيلَ: وَمَعْنَى: وَلَا تَسْأَمُوا، أَيْ لَا تَكْسَلُوا، وَعَبَّرَ بِالسَّأَمِ عَنِ الْكَسَلِ، لِأَنَّ الْكَسَلَ صِفَةُ الْمُنَافِقِ، وَمِنْهُ

الْحَدِيثُ: «لَا يَقُلِ الْمُؤْمِنُ كَسَلْتُ»

، وَكَأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى

«١» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَضْجَرُوا، وَ: أَنْ تَكْتُبُوا، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، لِأَنَّ سَئِمَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ عَامًا لَا أبك لَكَ يَسْأَمِ

وَقِيلَ: يَتَعَدَّى سَئِمَ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَيَكُونُ: أَنْ تَكْتُبُوهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَئِمَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرِّ قَوْلُهُ:

وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ

وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي: تَكْتُبُوهُ، عَائِدٌ عَلَى الدَّيْنِ، لِسَبْقِهِ، أَوْ عَلَى الْحَقِّ لِقُرْبِهِ، وَالدَّيْنُ هُوَ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَانَ مَنْ كَثُرَتْ دُيُونُهُ يَمَلُّ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَنُهُوا عن ذلك.


(١) سورة النساء: ٤/ ١٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>