بِالْإِصْرِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُنَا سَأَلُوا أَنْ لَا يُحَمِّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِصْرِ السَّابِقِ لِتَخْصِيصِهِ بِالتَّشْبِيهِ. وَعُمُومِ هَذَا، وَالتَّشْدِيدُ فِي: وَلَا تُحَمِّلْنَا، لِلتَّعْدِيَةِ.
وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً لِلتَّكْثِيرِ فِي حَمَّلَ: كَجَرَحْتُ زَيْدًا وَجَرَّحْتُهُ، وَقِيلَ: مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ النَّازِلَةِ بِمَنْ قَبْلَنَا، طَلَبُوا أَوَّلًا أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ثُمَّ ثَانِيًا طَلَبُوا أَنْ يُعْفِيَهُمْ عَمَّا نَزَلَ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. انْتَهَى.
وَالطَّاقَةُ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَهِيَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ الْمَصَادِرِ، وَالْقِيَاسُ طَاقَةٌ، فَهُوَ نَحْوُ: جابة، من أجاب، و: غارة، مِنْ أَغَارَ. فِي أَلْفَاظٍ سُمِعَتْ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا.
فَلَا يُقَالُ: أَطَالَ طَالَةً، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْنِيَ بِمَا لَا طَاقَةَ، مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْنِيَ بِالطَّاقَةِ مَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَطَاعًا حَمْلُهَا.
فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إِلَى الْعُقُوبَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى التَّكَالِيفِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْمَعْنَى لَا تُحَمِّلْنَا حَمْلًا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ. خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا يُعْقَلُ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُطِيقٌ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ لَكِنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «١» .
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، طَلَبُوا الْعَفْوَ وَهُوَ الصَّفْحُ عَنِ الذَّنْبِ: وَإِسْقَاطُ الْعِقَابِ، ثُمَّ سَتْرُهُ عَلَيْهِمْ صَوْنًا لَهُمْ مِنْ عَذَابِ التَّخْجِيلِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي سَتْرَهُ فَيُقَالُ: عَفَا عَنْهُ إِذَا وَقَّفَهُ عَلَى الذَّنْبِ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ عُقُوبَةَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَسَأَلُوا الْإِسْقَاطَ لِلْعُقُوبَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ، إِذْ فِيهِ التَّعْذِيبُ الْجُسْمَانِيُّ وَالنَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ بِتَجَلِّي الْبَارِئِ تَعَالَى لَهُمْ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْعَفْوُ إِزَالَةُ الذَّنْبِ بِتَرْكِ عُقُوبَتِهِ، وَالْغُفْرَانُ سَتْرُ الذَّنْبِ وَإِظْهَارُ الْإِحْسَانِ بَدَلَهُ، فَكَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَغْطِيَةِ ذَنْبِهِ، وَكَشْفِ الْإِحْسَانِ الَّذِي غَطَّى بِهِ. وَالرَّحْمَةُ إِفَاضَةُ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ أبلغ من
(١) سورة هود: ١١/ ٢٠.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute