السَّلَامُ الَّذِي جَادَلَ فِيهِ الْوَفْدَ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمَا: فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، وَفِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَنَحْوِهِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ: كُلُّ أَمْرٍ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا قَدُمَ وَحَدَثَ، فَدَخَلَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ: طُوفَانُ نُوحٍ، وَفَرْقُ الْبَحْرِ لِغَرَقِ فِرْعَوْنَ، وَيَوْمُ بَدْرٍ، وَسَائِرُ أَفْعَالِ اللَّهِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانَ: النَّصْرُ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الْمُخْتَارُ أن يكون المراد بالفرقان هُنَا الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي قَرَنَهَا اللَّهُ بِإِنْزَالِ هَذِهِ الْكُتُبِ، لأنهم إذا ادعو أَنَّهَا نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ افْتَقَرُوا إِلَى، تَصْحِيحِ دَعْوَاهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَكَانَتْ هِيَ الْفُرْقَانَ، لِأَنَّهَا تُفَرِّقُ بَيْنَ دَعْوَى الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهَا، أَنْزَلَ مَعَهَا مَا هُوَ الْفُرْقَانُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنْزَلَ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَحْزَابُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانَ: هُنَا الْأَحْكَامُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللَّهُ لِيُفَرِّقَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ فِي تفسير الفرقان. والفرقان مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ الْفَاعِلِ، أَيِ: الْفَارِقُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَفْعُولُ أَيِ: الْمَفْرُوقُ. قَالَ تَعَالَى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «١» .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى أَمْرَ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمْرَ النُّبُوَّةِ بِذِكْرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، تَوَعَّدَ مَنْ كَفَرَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَغَيْرِهَا، بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، كَالْقَتْلِ، وَالْأَسْرِ. وَالْغَلَبَةِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ: كَالنَّارِ.
والَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ دَاخِلٌ فِيهِ مَنْ نَزَلَتِ الْآيَاتُ بِسَبَبِهِمْ، وَهُمْ نَصَارَى وَفْدِ نَجْرَانَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِشَارَةٌ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وكعب بْنِ أَسَدٍ، وَبَنِي أَخْطَبَ وَغَيْرِهِمْ.
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أَيْ: مُمْتَنِعٌ أَوْ غَالِبٌ لَا يُغْلَبُ، أَوْ مُنْتَصِرٌ ذُو عُقُوبَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَصْفَ: بِذُو، أَبْلَغُ مِنَ الْوَصْفِ بِصَاحِبٍ، ولذلك لم يجىء فِي صِفَاتِ اللَّهِ صَاحِبٌ، وَأَشَارَ بِالْعِزَّةِ إِلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَأَشَارَ بِذِي انْتِقَامٍ، إِلَى كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْعِقَابِ، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذُو انْتِقامٍ لَهُ انْتِقَامٌ شَدِيدٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ مُنْتَقِمٌ. انْتَهَى.
وَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ لَفْظُ: ذُو انْتِقَامٍ، إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خَارِجِ اللفظ.
(١) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٦.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute