للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ، وَالَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ: أَنَّ الدِّينَ، بِالْفَتْحِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَعْمُولِ: لِلْحَكِيمِ، عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ: بِأَنَّ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ:

كَالْعَلِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْخَبِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «١» وَقَالَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «٢» وَالتَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَاكِمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. وَلَمَّا شَهِدَ تَعَالَى لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ، حُكِمَ أَنَّ الدِّينَ الْمَقْبُولَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «٣» وَعَدَلَ من صِيغَةِ الْحَاكِمِ إِلَى الْحَكِيمِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ، وَلِمُنَاسَبَةِ الْعَزِيزِ، وَمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ تَكْرَارُ حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ، إِذْ حَكَمَ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ بِذَلِكَ.

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ حَمَلْتَ الْحَكِيمَ عَلَى أَنَّهُ مُحَوَّلٌ مِنْ فَاعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهَلَّا جَعَلْتَهُ فَعَيْلًا بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، فَيَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُحْكِمَ، كَمَا قَالُوا فِي: أَلِيمٍ، إِنَّهُ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَفِي سَمِيعٍ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ؟

فَالْجَوَابُ: إِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فَعِيلًا يَأْتِي بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ: أَلِيمٌ وَسَمِيعٌ، عَلَى غَيْرِ مُفْعِلٍ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ النُّدُورِ وَالشُّذُوذِ وَالْقِلَّةِ بِحَيْثُ لَا يَنْقَاسُ، وَأَمَّا فَعِيلٌ الْمُحَوَّلُ مِنْ فَاعِلٍ لِلْمُبَالَغَةِ فَهُوَ مُنْقَاسٌ كَثِيرٌ جِدًّا، خَارِجٌ عَنِ الْحَصْرِ: كَعَلِيمٍ وَسَمِيعٍ وَقَدِيرٍ وَخَبِيرٍ وَحَفِيظٍ، فِي أَلْفَاظٍ لَا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ الْقُحَّ الْبَاقِيَ عَلَى سَلِيقَتِهِ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ حَكِيمٍ إِلَّا أَنَّهُ مُحَوَّلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاكِمٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا. نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةُ هَذَا التَّرْكِيبِ السَّابِقِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقِيلَ لَهُ التِّلَاوَةُ: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «٤» فَقَالَ: هَكَذَا يَكُونُ عَزَّ فَحَكَمَ، ففهم من حكم أَنَّهُ مُحَوَّلٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ حَاكِمٍ، وَفَهِمَ هَذَا الْعَرَبِيُّ حُجَّةً قَاطِعَةً بِمَا قُلْنَاهُ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ سَهْلٌ سَائِغٌ جِدًّا، يُزِيلُ تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ والتركيبات المعقدة الَّتِي يُنَزَّهُ كِتَابُ اللَّهِ عنها.


(١) سورة هود: ١١/ ١.
(٢) سورة النمل: ٢٧/ ٦.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٨٥.
(٤) سورة المائدة: ٥/ ٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>