للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ أَوْقَعُ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ حِكَايَةُ الْكَائِنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَثْبَتُ لِمُوَافَقَةِ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ. انْتَهَى.

وَ: لَوْ، هُنَا حَرْفٌ لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، وَمَفْعُولُ: تَوَدُّ، مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: تَوَدُّ تَبَاعُدَ مَا بَيْنَهُمَا لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا لَسَرَتْ بِذَلِكَ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي: لَوْ، و: أَنْ، وَمَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَفِي مَوْضِعِ فَاعِلٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ: لَوْ، بِمَعْنَى: أَنْ، وَأَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ فَهُوَ بَعِيدٌ هُنَا لِوِلَايَتِهَا أَنَّ وَأَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا يُبَاشِرُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ حَرْفًا مصدريًّا إِلَّا قَلِيلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «١» والذي يقتضيه المعنى أن: لَوْ أَنَّ، وَمَا يَلِيهَا هُوَ مَعْمُولُ: لِتَوَدُّ، فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: يُسَرُّ أَحَدُهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَلِكَ أَبَدًا، ذَلِكَ مَعْنَاهُ.

وَمَعْنَى أَمَدًا بَعِيدًا: غَايَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقِيلَ: مِقْدَارُ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: قَدْرُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ. كَرَّرَ التَّحْذِيرَ لِلتَّوْكِيدِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُونَ مُمْتَثِلِي أَمْرَهُ ونهيه.

وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ التَّخْوِيفِ وَكَرَّرَهَا، كَانَ ذَلِكَ مُزْعِجًا لِلْقُلُوبِ، وَمُنَبِّهًا عَلَى إِيقَاعِ الْمَحْذُورِ مَعَ مَا قَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَإِحْضَارِهِ لَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهَذَا هُوَ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ اللَّذَيْنِ يَجِبُ أَنْ يُحَذِّرَ لِأَجْلِهِمَا، فَذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِيُطْمَعَ فِي إِحْسَانِهِ، وَلِيُبْسَطَ الرَّجَاءُ فِي أَفْضَالِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مَا إِذَا ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْأَمْرِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «٢» وَتَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَبْلَغَ فِي الْوَصْفِ مِنْ جُمْلَةِ التَّخْوِيفِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ التَّخْوِيفِ جَاءَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُطْلَقَ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، وَجَاءَ الْمُحَذَّرُ مَخْصُوصًا بِالْمُخَاطَبِ فَقَطْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَاءَتِ اسْمِيَّةً، فَتَكَرَّرَ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ، إِذِ الْوَصْفُ مُحْتَمِلٌ ضَمِيرَهُ تَعَالَى، وَجَاءَ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ الْمُقْتَضِي لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، وَجَاءَ بِأَخَصِّ أَلْفَاظِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ: رؤوف، وَجَاءَ مُتَعَلِّقُهُ عَامًّا لِيَشْمَلَ المخاطب


(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٢٣.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٥ والأعراف: ٧/ ١٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>