للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِتَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْمَوْضُوعَةِ، وَالْإِعْلَامُ بِمَا عَلِقَ بِهَا وَبِابْنِهَا مِنْ عَظِيمِ الْأُمُورِ، إِذْ جَعَلَهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ. وَوَالِدَتُهَا جَاهِلَةٌ بِذَلِكَ لَا تَعْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا.

وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا وَضَعْتِ، بِكَسْرِ تَاءِ الْخِطَابِ، خَاطَبَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ أَيْ: إِنَّكِ لَا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذِهِ الْمَوْهُوبَةِ، وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِظَمِ شأنها وعلوّ قدرها.

وَ: مَا، مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى: الَّذِي، أَوِ: الَّتِي، وَأَتَى بِلَفْظِ: مَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ عَلَى كُلِّ قِرَاءَةٍ.

وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ مَرْيَمُ فِي لُغَتِهِمْ مَعْنَاهُ: الْعَابِدَةُ، أَرَادَتْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ التَّفَاؤُلَ لَهَا بِالْخَيْرِ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّضَرُّعَ إِلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُهَا مُطَابِقًا لِاسْمِهَا، وَأَنْ تَصْدُقَ فِيهَا ظَنَّهَا بِهَا. أَلَا تَرَى إِلَى إعاذتها بالله وإعاذتها ذُرِّيَّتِهَا مِنَ الشَّيْطَانِ؟ وَخَاطَبَتِ اللَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ لِتَرَتُّبِ الِاسْتِعَاذَةِ عَلَيْهِ، وَاسْتِبْدَادُهَا بِالتَّسْمِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا عِمْرَانَ كَانَ قَدْ مَاتَ، كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ، عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُنْثَى أَنْ تَسْتَبِدَّ الْأُمُّ بِالتَّسْمِيَةِ لِكَرَاهَةِ الرِّجَالِ الْبَنَاتِ، وَفِي الْآيَةِ تَسْمِيَةُ الطِّفْلِ قُرْبَ الْوِلَادَةِ،

وَفِي الْحَدِيثِ: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ فَسَمَّيْتُهُ بَاسِمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ» .

وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: «يُعَقُّ عَنِ الْمَوْلُودِ فِي السَّابِعِ وَيُسَمَّى» .

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ كَلَامِهَا، وَهِيَ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقَوْلِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: بِمَا وَضَعْتُ، بِضَمِّ التَّاءِ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: بِمَا وَضَعَتْ، بِسُكُونِ التَّاءِ أَوْ بِالْكَسْرِ.

فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى: إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَانِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «١» . انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ كَلَامِهَا، وَيَكُونُ الْمُعْتَرِضُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، كَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِهَا فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: وَضَعْتُ، بِضَمِّ التَّاءِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُتَعَيَّنُ لِثُبُوتِ كَوْنِهِ مِنْ كَلَامِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ فِي اعْتِرَاضِ جُمْلَتَيْنِ خلافا. مذهب أَبِي عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ جُمْلَتَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ.

وَأَيْضًا تَشْبِيهُهُ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اعْتُرِضَ بِهِمَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلَى زَعْمِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «٢» لَيْسَ تَشْبِيهًا مُطَابِقًا لِلْآيَةِ، لِأَنَّهُ لم


(٢- ١) سورة الواقعة: ٥٦/ ٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>