للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قِيلَ: وَاللَّامُ فِي: هُنَالِكَ، دَلَالَةٌ عَلَى بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ، فَإِنَّهُ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَإِجَابَتِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: دَخَلَتِ اللَّامُ لِبُعْدِ مَنَالِ هَذَا الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، كَمَا أُدْخِلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ «١» لِبُعْدِ مَنَالِهِ وَعِظَمِ ارْتِفَاعِهِ وَشَرَفِهِ. وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: كَانَتْ نَفْسُهُ تُحَدِّثُهُ بِأَنْ يَهِبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا يَبْقَى بِهِ الذِّكْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ، إِذِ الْأَدَبُ أَنْ لَا يَدْعُوَ لِمُرَادٍ إِلَّا فِيمَا هُوَ مُعْتَادُ الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَى عِنْدَهَا مَا هُوَ نَاقِضٌ لِلْعَادَةِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الدُّعَاءِ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ. انْتَهَى.

وَقَوْلُهُ: كَانَتْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ. وَفِي قَوْلِهِ: هُنالِكَ دَعا دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ يَتَوَخَّى الْعَبْدُ بِدُعَائِهِ الْأَمْكِنَةَ الْمُبَارَكَةَ وَالْأَزْمِنَةَ الْمُشَرَّفَةَ.

قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً هَذِهِ الْجُمْلَةُ شَرْحٌ لِلدُّعَاءِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَنَادَاهُ بِلَفْظِ: رَبِّ، إِذْ هُوَ مُرَبِّيهِ وَمُصْلِحُ حَالِهِ، وَجَاءَ الطَّلَبُ بِلَفْظِ: هَبْ، لِأَنَّ الْهِبَةَ إِحْسَانٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ يَكُونُ عِوَضًا لِلْوَاهِبِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ مَا لَا تَسَبُّبَ فِيهِ: لَا مِنَ الْوَالِدِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَلَا مِنَ الْوَالِدَةِ لِكَوْنِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ، فَكَانَ وَجُودُهُ كَالْوُجُودِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، أَتَى هِبَةً مَحْضَةً مَنْسُوبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْكَ، أَيْ مِنْ جِهَةِ مَحْضِ قُدْرَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ سَبَبٍ.

وَتَقَدَّمَ أَنَّ: لدن، لما قرب، و: عند، لِمَا قَرُبَ وَلِمَا بَعُدَ، وَهِيَ أَقَلُّ إِبْهَامًا مِنْ:

لَدُنْ، أَلَا تَرَى أَنَّ: عند، تقع جوابا لأين، وَلَا تَقَعُ لَهُ جَوَابًا: لَدُنْ؟.

ومِنْ لَدُنْكَ مُتَعَلِّقٌ: بِهَبْ، وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ: ذَرِّيَّةً، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، فَعَلَى هَذَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالذُّرِّيَّةُ جِنْسٌ يَقَعُ عَلَى وَاحِدٍ، فَأَكْثَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:

أَرَادَ بِالذُّرِّيَّةِ هُنَا وَاحِدًا دَلِيلُ ذَلِكَ طَلَبُهُ: وَلِيًّا، وَلَمْ يَطْلُبْ: أَوْلِيَاءَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِيمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ تَعَقُّبٌ، وَإِنَّمَا الذُّرِّيَّةُ وَالْوَلِيُّ اسْمَا جِنْسٍ يَقَعَانِ لِلْوَاحِدِ فَمَا زَادَ، وَهَكَذَا كَانَ طَلَبُ زَكَرِيَّا. انْتَهَى.

وَفَسَّرَ: طَيِّبَةً، بِأَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً فِي الْخُلُقِ وَفِي الدِّينِ تَقِيَّةً. وَقَالَ الرَّاغِبُ: صَالِحَةً، وَاسْتِعْمَالُ الصَّالِحِ فِي الطَّيِّبِ كَاسْتِعْمَالِ الْخَبِيثِ فِي ضِدِّهِ، عَلَى أَنَّ فِي الطَّيِّبِ زِيَادَةَ مَعْنًى عَلَى الصَّالِحِ. وَقِيلَ: أَرَادَ: بِطَيِّبَةٍ، أَنَّهَا تَبْلُغُ فِي الدِّينِ رُتْبَةَ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ كَانَ أراد بالذرية


(١) سورة البقرة: ٢/ ٢. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>