لِمُتَكَلَّفٍ بِهِ، أَوْ بِمَلْزُومِهِ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَهُوَ الصَّوْمُ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَنْعٍ قَهْرِيٍّ مُدَّةً مُعَيَّنَةً لِآفَةٍ تَعْرِضُ فِي الْجَارِحَةِ، أَوْ لِغَيْرِ آفَةٍ، قَالُوا: مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَلَامِ بِذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَلِذَلِكَ قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِلَى آخِرِهِ يَعْنِي فِي أَيَّامِ عَجْزِكَ عَنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ، وَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ. انْتَهَى.
وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ احْتِمَالَاتِ وُجُوهِ الِانْتِفَاءِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ لَيْسَ مُقَيَّدًا بِالزَّمَانِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَقْيِيدِ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ بِالنُّطْقِ بِالْكَلَامِ، وَظَاهِرُ: اجْعَلْ، هُنَا أَنَّهَا بِمَعْنَى صَيِّرْ، فَتَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ: الْأَوَّلُ آيَةٌ، وَالثَّانِي الْمَجْرُورُ، قَبْلَهُ وَهُوَ: لِي، وَهُوَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ، لِأَنَّهُ قَبْلَ دُخُولِ: اجْعَلْ، هُوَ مُصَحِّحٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ.
وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَنْ لَا تُكَلِّمُ، بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ: أَنْ، هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَا تُكَلِّمُ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَوْ عَلَى إِجْرَاءِ: أَنْ، مَجْرَى: مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَانْتِصَابُ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، عَلَى الظَّرْفِ خِلَافًا لِلْكُوفِيِّينَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ اسْمُ الزَّمَانِ يَسْتَغْرِقُهُ الْفِعْلُ، فَلَيْسَ بِظَرْفٍ، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ انْتِصَابَ الْمَفْعُولِ بِهِ نَحْوَ: صَمَتَ يَوْمًا، فَانْتِصَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْكَلَامِ مِنْهُ لِلنَّاسِ كَانَ وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الثَّلَاثَةِ، لَمْ يَخْلُ جُزْءٌ مِنْهَا مِنِ انْتِفَاءٍ فِيهِ. وَالْمُرَادُ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا «١» وَهَذَا يَضَعِّفُ تَأْوِيلَ مَنْ قَالَ: أُمِرَ بِالصَّوْمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي صَوْمِهِمْ، وَاللَّيَالِي تَبْعُدُ مَشْرُوعِيَّةُ صَوْمِهَا، وَلَمْ يُعَيِّنِ ابْتِدَاءَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلْ أَطْلَقَ فَقَالَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَكْلِيفٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى اخْتِيَارِهِ، يَمْتَنِعُ مِنْ تَكْلِيمِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَتَى شَاءَ، وَيُمْكِنُ أن يكون ذلك من حِينِ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ بِمَنْعٍ قَهْرِيٍّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ حِينِ الْخِطَابِ.
قِيلَ: وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ قُدْرَةِ زَكَرِيَّا عَلَى الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ شَرْعَهُ مشرع لَنَا وَإِنْ نَسَخَهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لَا صَمْتَ يَوْمٍ إِلَى الليل.
(١) سورة مريم: ١٩/ ١٠.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute