للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحَالَ وَصْفٌ فِي الْمَعْنَى؟ فَكَمَا أَنَّ الْأَحْسَنَ وَالْأَكْثَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَوْصَافٌ مُتَغَايِرَةٌ بدىء بِالِاسْمِ، ثُمَّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ «١» فكذلك الحال، بدىء بِالِاسْمِ، ثُمَّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُضَارِعِيَّةً لِأَنَّ الْفِعْلَ يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ، كَمَا أَنَّ الِاسْمَ يُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ، وَيَتَعَلَّقُ: فِي الْمَهْدِ، بِمَحْذُوفٍ إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، التَّقْدِيرُ:

كَائِنًا فِي الْمَهْدِ وكهلا، معطوف على هذا الْحَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: طِفْلًا وَكَهْلًا، فَعُطِفَ صَرِيحُ الْحَالِ عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَنَظِيرُهُ عَكْسًا: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ

«٢» وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ: وَكَهْلًا، مَعْطُوفٌ عَلَى: وَجِيهًا، فَقَدْ أَبْعَدَ.

وَالْمَهْدُ: مَقَرُّ الصَّبِيِّ فِي رِضَاعِهِ، وَأَصْلُهُ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ يُقَالُ: مَهَّدْتُ لِنَفْسِي بِتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِهَا، أَيْ: وَطَّأْتُ، وَيُقَالُ: أَمْهَدَ الشَّيْءُ ارْتَفَعَ.

وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ: الْكَهْلِ لُغَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ الْحَلِيمُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ غَالِبًا، لِأَنَّ الْكَهْلَ يَقْوَى عَقْلُهُ وَإِدْرَاكُهُ وَتَجْرِبَتُهُ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ كَالشَّارِخِ، وَالْعَرَبُ تَتَمَدَّحُ بِالْكُهُولَةِ، قَالَ:

وَمَا ضَرَّ مَنْ كَانَتْ بَقَايَاهُ مِثْلَنَا ... شَبَابٌ تَسَامَى لِلْعُلَى وَكُهُولُ

وَلِذَلِكَ خُصَّ هَذَا السِّنُّ فِي الْآيَةِ دُونَ سَائِرِ الْعُمْرِ، لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الْوُسْطَى فِي اسْتِحْكَامِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَكَهْلًا، تَبْشِيرٌ بِأَنَّهُ يَعِيشُ إِلَى سِنِّ الْكُهُولَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ، وَيُقَالُ:

إِنَّ مَرْيَمَ وَلَدَتْهُ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ وُلِدَ لِذَلِكَ لَمْ يَعِشْ، فَكَانَ ذَلِكَ بِشَارَةً لَهَا بِعَيْشِهِ إِلَى هَذَا السِّنِّ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ مَاتَ، وَفِي قَوْلِهِ: فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا إِشَارَةٌ إِلَى تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ، وَرَدٌّ عَلَى النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ إِلَهِيَّتِهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ:

ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ إِعْلَامًا بِهِ أَنَّهُ يَكْتَهِلُ، فَإِذَا أُخْبِرَتْ بِهِ مَرْيَمُ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ.

وَاخْتُلِفَ فِي كَلَامِهِ: فِي الْمَهْدِ، أَكَانَ سَاعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ النُّطْقِ؟ أَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ دَائِمًا فِي الْمَهْدِ حَتَّى بَلَغَ إِبَّانَ الْكَلَامِ؟ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَنَقَلَ الثَّعَالِبِيُّ أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِهِ لِأُمِّهِ وَهُوَ مُرْضَعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ حِينَ كَلَّمَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ نَبِيًّا لِقَوْلِهِ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا «٣» وَلِظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ مِنْهُ وَالتَّحَدِّي بِهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكَلَامُ تَأْسِيسًا لِنُبُوَّتِهِ، فَيَكُونُ


(١) سورة غافر: ٤٠/ ٢٨.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ١٣٧.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>