للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ الضَّمِيرُ فِي: مَكَرُوا، عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي:

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وَهُمْ: بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمَكْرُهُمْ هُوَ احْتِيَالُهُمْ فِي قَتْلِ عِيسَى بِأَنْ وَكَّلُوا بِهِ مَنْ يَقْتُلُهُ غِيلَةً، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ كَيْفِيَّةِ حَصْرِهِ وَحَصْرِ أَصْحَابِهِ فِي مَكَانٍ، وَرَوْمِهِمْ قَتْلَهُ وَإِلْقَاءِ الشَّبَهِ عَلَى رَجُلٍ، وَقَتْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَصَلْبِهِ فِي مَكَانِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَمَكَرَ اللَّهُ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى مَكْرِهِمْ سَمَّى ذَلِكَ مَكْرًا، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ لَهُمْ نَاشِئَةٌ عَنِ الْمَكْرِ، كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «١» وَقَوْلِهِ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «٢» وَكَثِيرًا مَا تُسَمَّى الْعُقُوبَةُ بِاسْمِ الذَّنْبِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَاهُ.

وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ هُوَ رَدُّهُمْ عَمَّا أَرَادُوا بِرَفْعِ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، وَإِلْقَاءِ شَبَهِهِ عَلَى مَنْ أَرَادَ اغْتِيَالَهُ حَتَّى قُتِلَ.

وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَهْلَ فَارِسٍ فَقَتَلُوهُمْ وَسَبَوْا ذَرَارِيهِمْ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْيَهُودَ غَزَوُا الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى، فَأَخَذُوهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ مَلِكُ الرُّومِ، وَكَانَ مَلِكُ الْيَهُودِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَأَنْقَذَهُمْ ثُمَّ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَصَارَ نَصْرَانِيًّا، وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ. ثمَ وَلِيَ مَلِكٌ آخَرُ بَعْدُ وَغَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ حَجْرًا عَلَى آخَرَ، وَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ قريظة والنضير إِلَى الْحِجَازِ.

وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: وَدَبَّرُوا وَدَبَّرَ اللَّهُ، وَالْمَكْرُ لُطْفُ التَّدْبِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الْمَكْرُ قَبِيحٌ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُزَاوَجَةِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: مَكْرُ اللَّهِ بِهِمْ إِعْلَاءُ دِينِهِ وَقَهْرُهُمْ بِالذُّلِّ، وَمَكْرُهُمْ لُزُومُهُمْ إِبْطَالَ دِينِهِ. وَالْمَكْرُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاحْتِيَالِ فِي إِيصَالِ الشَّرِّ فِي خُفْيَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. وَقِيلَ: الْمَكْرُ الْأَخْذُ بِالْغَفْلَةِ لِمَنِ اسْتَحَقَّهُ، وَسَأَلَ رَجُلٌ الْجُنَيْدَ، فَقَالَ:

كَيْفَ رَضِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ الْمَكْرَ وَقَدْ عَابَ بِهِ غَيْرَهُ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، وَلَكِنْ أَنْشَدَنِي فُلَانٌ الظَّهْرَانِيُّ:

وَيُقَبِّحُ مَنْ سِوَاكَ الْفِعْلَ عِنْدِي ... فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا

ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ.

وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ مَعْنَاهُ أَيِ: الْمُجَازِينَ أَهْلِ الْخَيْرِ بِالْفَضْلِ وَأَهْلِ الْجَوْرِ


(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٠.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>