للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِي حَدِيثِ الشَّابِّ الَّذِي أُتِيَ بِهِ لِيَتَعَلَّمَ مِنْ سِحْرِ السَّاحِرِ، فَتَرَكَ السَّاحِرَ وَدَخَلَ فِي دِينِ عِيسَى وتعبد به، فصار يبرىء الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَفِيهِ أَنَّهُ دَعَا لِجَلِيسِ الْمَلِكِ وَابْنِ عَمِّهِ، وَكَانَ أَعْمَى، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ.

خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ هِيَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بَاسِمِ أَصْلِهِ. كقوله اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ «١» كَانَ تُرَابًا ثُمَّ صَارَ طِينًا وَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ. كَمَا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «٢» وَقَالَ تَعَالَى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ «٣» وَقَالَ: قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «٤» .

وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي: خَلَقَهُ، عَائِدٌ عَلَى آدَمَ، وَهَذِهِ الجملة تفسيرية لمثل آدَمَ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقُدِّرَ مَعَ خَلَقَهُ مَقْدِرَةً، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ صِفَةً لِآدَمَ وَلَا حَالًا مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِذِ الْمَاضِي لَا يَكُونُ حَالًا أَنْتَ فِيهَا، بَلْ هُوَ كَلَامٌ مَقْطُوعٌ مِنْهُ مُضَمِّنُهُ تَفْسِيرُ الْمَثَلِ.

انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَعْنَى: قَدَّرَهُ جَسَدًا مِنْ طِينٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أَيْ أَنْشَأَهُ بَشَرًا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ. قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ، لَا بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، لَمْ يَأْتِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ لِأَنَّ مَا خُلِقَ لَا يُقَالُ لَهُ: كُنْ، وَلَا يَنْشَأُ إِلَّا إِنْ كَانَ مَعْنَى ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ عِبَارَةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وَقَالَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ بِمَعْنَى أَنْشَأَهُ لَا بِمَعْنَى قَدَّرَهُ. قِيلَ: أَوْ يَكُونَ: كُنْ، عِبَارَةً عَنْ كَوْنِهِ لَحْمًا وَدَمًا، وَقَوْلُهُ: فَيَكُونُ، حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ وَلَا قَوْلَ هُنَاكَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَكِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ الْخَلْقِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِيجَادِ مَا يُرِيدُ تَعَالَى إِيجَادَهُ، إِذِ الْمَعْدُومُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ.

وَ: ثُمَّ، قِيلَ لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ، لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ خَلَقَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَعْنَى تَفْسِيرٌ لِلْخَلْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ أَيْ: أَنْشَأَهُ أَوَّلًا مِنْ طِينٍ، ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْجَدَ فِيهِ الرُّوحَ أن صَيَّرَهُ لَحْمًا وَدَمًا عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: وَمَعْنَى: كُنْ. بَعْدَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ: كُنْ إِنْسَانًا حَيًّا نَاطِقًا، وَهُوَ لم


(١) سورة فاطر: ٣٥/ ١١. وغافر: ٤٠/ ٦٧
(٢) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٢. [.....]
(٣) سورة ص: ٣٨/ ٧١.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>