للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِي قَوْلِهِ: بَعْضُنَا بَعْضًا، إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْبَعْضِيَّةَ تُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ إِذْ هِيَ تُمَاثِلُ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِثْلَكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَإِذَا كَانُوا قَدِ اسْتَبْعَدُوا اتِّبَاعَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ لِلِاخْتِصَاصِ بِالنُّبُوَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «١» إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ «٢» أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا «٣» فَادِّعَاءُ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا فِيهِ أَشَدَّ اسْتِبْعَادًا: وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا أَدَاةُ النَّفْيِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، يُؤَكِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، إِذِ اخْتِصَاصُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الِاشْتِرَاكِ وَنَفْيَ اتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَكِنْ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ تَأْكِيدٍ وَإِسْهَابٍ وَنَشْرِ كَلَامٍ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُبَالِغِينَ فِي التَّمَسُّكِ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّوْكِيدَ فِي انْتِفَاءِ ذَلِكَ، وَالنَّصَارَى جَمَعُوا بَيْنَ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ: عَبَدُوا عِيسَى، وَأَشْرَكُوا بِقَوْلِهِمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا فِي الطَّاعَةِ لَهُمْ فِي تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَفِي السُّجُودِ لَهُمْ.

قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ: أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ رَبِّهِمْ فِي قَبُولِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُحِلُّهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كَتَقْدِيرَاتٍ دُونَ مُسْتَنَدٍ، وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِ الْإِمَامِ دُونَ إِبَانَةِ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّوَافِضُ. انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أَيْ: فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنِ الْكَلِمَةِ السَّوَاءِ فَأَشْهِدُوهُمْ أَنَّكُمْ مُنْقَادُونَ إِلَيْهَا، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْمُبَايَنَةِ لَهُمْ، أَيْ: إِذَا كُنْتُمْ مُتَوَلِّينَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّا قَابِلُونَ لَهَا وَمُطِيعُونَ. وَعَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، إِذْ خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ حَيِّزِ الْمَعْقُولِ إِلَى حَيِّزِ الْمَشْهُودِ، وَهُوَ الْمُحْضَرُ فِي الْحِسِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا أَمْرٌ بِإِعْلَامٍ بِمُخَالَفَتِهِمْ وَمُوَاجَهَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَإِشْهَادِهِمْ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّهْدِيدِ، أَيْ سَتَرَوْنَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُتَوَلُّونَ عَاقِبَةَ تَوَلِّيكُمْ كَيْفَ يَكُونُ. انْتَهَى.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ لَزِمَتْكُمُ الْحُجَّةُ، فَوَجَبَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعْتَرِفُوا وَتُسَلِّمُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دُونَكُمْ، كَمَا يَقُولُ الْغَالِبُ لِلْمَغْلُوبِ فِي جِدَالٍ أَوْ صِرَاعٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا: اعْتَرِفْ بِأَنِّي أَنَا الْغَالِبُ، وَسَلِّمْ لِي الْغَلَبَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ، وَمَعْنَاهُ: اشْهَدُوا وَاعْتَرِفُوا بِأَنَّكُمْ كَافِرُونَ حَيْثُ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ. انتهى.


(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٠.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ١١.
(٣) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>