هُوَ إِلَّا تَحْرِيمٌ قَدِيمٌ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهَلُمَّ جَرًّا، إِلَى أَنِ انْتَهَى التَّحْرِيمُ إِلَيْنَا فَحَرُمَتْ عَلَيْنَا كَمَا حَرُمَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَغَرَضُهُمْ تَكْذِيبُ شَهَادَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَمَا عُدِّدَ مِنْ مَسَاوِيهِمُ الَّتِي كُلَّمَا ارْتَكَبُوا مِنْهَا كَبِيرَةً حَرُمَ عَلَيْهِمْ نَوْعٌ مِنَ الطَّيِّبَاتِ عُقُوبَةً لَهُمْ انْتَهَى كَلَامُهُ.
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مِنَ متعلقة بحرم، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَيَبْعُدُ ذَلِكَ، إِذْ هُوَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْوَاضِحِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ مِنْ قَبْلِ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ ضَرُورَةً لِتَبَاعُدِ مَا بَيْنَ وُجُودِ إِسْرَائِيلَ وَإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَفُصِلَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذْ هُوَ فَصْلٌ جَائِزٌ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ: فِي جَوَازِ أَنْ، يَعْمَلَ مَا قَبْلَ إِلَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِذَا كَانَ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا أَوْ حَالًا نَحْوَ: مَا حُبِسَ إِلَّا زَيْدٌ عِنْدَكَ، وَمَا أَوَى إِلَّا عَمْرٌو إِلَيْكَ، وَمَا جَاءَ إِلَّا زَيْدٌ ضَاحِكًا. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبٍ مُطْلَقًا نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدٌ عَمْرًا وَأَجَازَ هُوَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ذَلِكَ فِي مَرْفُوعٍ نَحْوِ: مَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدًا عَمْرٌو، وَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ الْكِسَائِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ فَيُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ تَقْدِيرُهُ هُنَا: حِلٌّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ.
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ: خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فَأْتُوا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْحَقُّ، لَا زَعْمُكُمْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ. فَأْتُوا: وَهَذِهِ أَعْظَمُ مُحَاجَّةٍ أَنْ يُؤْمَرُوا بِإِحْضَارِ كِتَابِهِمُ الَّذِي فِيهِ شَرِيعَتُهُمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا ادَّعَوْهُ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْمَطَاعِمَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ مِنْ قَدِيمٍ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ حَادِثٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالتَّوْرَاةِ لِظُهُورِ افْتِضَاحِهِمْ بِإِتْيَانِهَا، بَلْ بُهِتُوا وَذَلِكَ كَعَادَتِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَفِي اسْتِدْعَاءِ التَّوْرَاةِ مِنْهُمْ وَتِلَاوَتِهَا الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأِ الْكُتُبَ وَلَا عَرَفَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، ثُمَّ أَخَذَ يُحَاجُّهُمْ ويَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَلَا يَجِدُونَ مِنْ إِنْكَارِهِ مَحِيصًا.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ فِي الشَّرَائِعِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ. وَخَرَجَ قَوْلِهِ: «إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» مُخْرَجَ الْمُمْكِنِ، وَهُمْ مَعْلُومٌ كَذِبُهُمْ. وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِمْ كَقَوْلِكَ: إِنْ كُنْتَ شُجَاعًا فَالْقَنِي، وَمَعْلُومٌ، عِنْدَكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُجَاعٍ، وَلَكِنْ هَزُأْتَ بِهِ إِذْ جَعَلْتَ هَذَا الْوَصْفَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُتَّصَفَ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute