للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّذِينَ كَانُوا يَصُدُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ فِي كِتَابِنَا، وَالظَّاهِرُ نِدَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عُمُومًا وَالْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ عَلَيْهِمْ كَقِيَامِهَا عَلَى الْخَاصَّةِ. وَكَأَنَّهُمْ بِتَرْكِ الاستذلال وَالْعُدُولِ إِلَى التَّقْلِيدِ بِمَنْزِلَةِ من علم ثم أنكر. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: «وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ» «١» انْتَهَى هَذَا الْقَوْلُ. وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُورَدُ الدَّلَائِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُجَابُونَ عَنْ شُبَهِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ أَقْوَى لِتَقَدُّمِ اعْتِرَافِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وَأَصْلِ النُّبُوَّةِ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْبَيْتِ آياتٌ بَيِّناتٌ «٢» وَأَوْجَبَ حَجَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «٣» نَاسَبَ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْكُفَّارِ كُفْرَهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، فَنَادَاهُمْ بيا أهل الْكِتَابِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ يَعْتَزِي إِلَى كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ، بَلْ يَنْبَغِي طَوَاعِيَتُهُ وَإِيمَانُهُ بِهَا، إِذْ لَهُ مَرْجِعٌ مِنَ الْعِلْمِ يَصِيرُ إِلَيْهِ إِذَا اعْتَرَتْهُ شُبْهَةٌ.

وَالْآيَاتُ: هِيَ الْعَلَامَاتُ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِّ. وَقِيلَ: آيَاتُ اللَّهِ هِيَ آيَاتٌ مِنَ التَّوْرَاةِ فِيهَا صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُحْتَمَلُ الْقُرْآنُ، وَمُعْجِزَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ فِيهَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. أَيْ إِنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مُطَّلِعًا عَلَى أَعْمَالِهِ مُشَاهِدًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ لَا يُنَاسِبُهُ أَنْ يَكْفُرَ بِآيَاتِهِ، فَلَا يُجَامِعُ الْعِلْمَ بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِ لَا يَكَادُ يَقَعُ مِنْهُ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ. وَأَتَتْ صِيغَةُ «شَهِيدٌ» لِتَدُلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِحَسَبِ الْمُتَعَلِّقِ. لِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تَقْبَلُ التَّفَاوُتَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.

فَإِذَا جَاءَتِ الصِّفَةُ مِنْ أَوْصَافِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فَذَلِكَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى «لِمَ» وَحَذْفِ الْأَلِفِ مِنْ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْجَارُّ. وَقَوْلُهُ: «عَلَى مَا تَعْمَلُونَ» مُتَعَلِّقٌ بقوله: شهيد. وما مَوْصُولَةٌ. وَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ عَلَى عَمَلِكُمْ.

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَضَلَالَهُمْ، وَلَمْ يكتفوا حتى


(١) سورة آل عمران: ٣/ ٩٩.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٩٧.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>