للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَكُونُ عِوَجًا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ نَصْبَهُ عَلَى الْحَالِ مِنِ الضَّمِيرِ في يبغون، أَيْ عِوَجًا مِنْكُمْ وَعَدَمَ اسْتِقَامَةٍ انْتَهَى. وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ عِوَجًا مَفْعُولًا بِهِ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ:

«يبغونها عِوَجًا» تَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يصدّون أَوْ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ فِيهَا ضَمِيرَيْنِ يَرْجِعَانِ إِلَيْهِمَا.

وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أَيْ بالعقل نحو: «وألقى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» «١» أَيْ عَارِفٌ بِعَقْلِهِ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ. نَحْوَ قَالَ: «فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «٢» وَتَارَةً بِإِقَامَةِ ذَلِكَ، أَيْ شَهِدْتُمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَعْثِهِ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَتِهِ وَصِدْقِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ أَنَّهَا سَبِيلُ اللَّهِ الَّتِي لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا ضَالٌّ مُضِلٌّ. أَوْ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بَيْنَ أَهْلِ دِينِكُمْ عُدُولٌ يَثِقُونَ بِأَقْوَالِكُمْ، وَيَسْتَشْهِدُونَ فِي عِظَامِ أُمُورِهِمْ، وَهُمُ الْأَحْبَارُ انْتَهَى. قِيلَ: وَفِي قَوْلِهِ: «وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ» دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ شُهَدَاءَ، وَلَا يَصْدُقُ هَذَا الِاسْمُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَكُونُ لَهُ شَهَادَةٌ. وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ، فَتَعَيَّنَ وَصْفُهُمْ بِأَنْ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تُقْبَلُ بِحَالٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لَهُمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ لَمَّا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ صَدَّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ الْمُؤْمِنِينَ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِغْوَاءِ الْكُفَّارِ وَإِضْلَالِهِمْ وَنَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ تَنْبِيهًا عَلَى تَبَايُنِ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ «قُلْ» لِيَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْهُ تَعَالَى لَهُمْ وَتَأْنِيسًا لَهُمْ. وَأَبْرَزَ نَهْيَهُ عَنْ مُوَافَقَتِهِمْ وَطَوَاعِيَّتِهِمْ فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ تَقَعْ طاعتهم لهم. والإشارة بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى الْأَوْسِ والخزرج بسب ثَائِرَةِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ. وَأَطْلَقَ الطَّوَاعِيَةَ لِتَدُلَّ عَلَى عُمُومِ الْبَدَلِ، أَيْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْكُمْ طَوَاعِيَةٌ مَا فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِمَّا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ إِضْلَالِكُمْ، وَلَمْ يُقَيِّدِ الطَّاعَةَ بِقِصَّةِ الأوس والخزرج عَلَى مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَالرَّدُّ هُنَا التَّصْيِيرُ أَيْ يُصَيِّرُونَكُمْ.

وَالْكُفْرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا لَيْسَ بِكُفْرٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ فِي إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَلَوْ وَقَعَتْ لَكَانَتْ مَعْصِيَةً لَا كُفْرًا إِلَّا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مُسْتَحِبِّينَ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِتَحْسِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ مَنْهِيًّا بَعْدَ مَنْهِيٍّ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أن يخرجوا


(١) سورة ق: ٥٠/ ٣٧.
(٢) سورة آل عمران: ٢/ ٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>