سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَا تَكُنْ هُنَا فَتَكُونُ رُؤْيَتِي لَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ «١» الْآيَةَ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّعٌ مِنَ الْأَحْوَالِ.
التَّقْدِيرُ: وَلَا تَمُوتُنَّ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا عَلَى حَالَةِ الْإِسْلَامِ. وَمَجِيئُهَا اسْمِيَّةٌ أَبْلَغُ لِتَكَرُّرِ الضَّمِيرِ، وَلِلْمُوَاجَهَةِ فِيهَا بِالْخِطَابِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ حَاصِلَةٌ قَبْلُ، وَمُسْتَصْحِبَةٌ. وَأَمَّا لَوْ قِيلَ: مُسْلِمِينَ، لَدَلَّ عَلَى الِاقْتِرَانِ بِالْمَوْتِ لَا مُتَقَدِّمًا وَلَا مُتَأَخِّرًا.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أَيِ اسْتَمْسِكُوا وَتَحَصَّنُوا. وَحَبْلُ اللَّهِ: الْعَهْدُ، أَوِ الْقُرْآنُ، أَوِ الدِّينُ، أَوِ الطَّاعَةُ، أَوْ إِخْلَاصُ التَّوْبَةِ، أَوِ الْجَمَاعَةُ، أَوْ إِخْلَاصُ التَّوْحِيدِ، أَوِ الْإِسْلَامُ. أَقْوَالٌ لِلسَّلَفِ يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ» .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْقُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ رَشَدَ، وَمَنِ اعْتَصَمَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
وَقَوْلُهُمْ: اعْتَصَمْتُ بِحَبْلِ فُلَانٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، مِثْلَ اسْتِظْهَارِهِ بِهِ وَوُثُوقِهِ بِإِمْسَاكِ الْمُتَدَلِّي مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ بِحَبْلٍ وَثِيقٍ يَأْمَنُ انْقِطَاعَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، اسْتَعَارَ الْحَبْلَ لِلْعَهْدِ وَالِاعْتِصَامَ لِلْوُثُوقِ بِالْعَهْدِ، وَانْتِصَابُ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَاعْتَصِمُوا وَلا تَفَرَّقُوا نُهُوا عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهِ كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: عَنِ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُعَادَاةِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ: عَنْ إِحْدَاثِ مَا يُوجِبُ التَّفَرُّقَ وَيَزُولُ مَعَهُ الِاجْتِمَاعُ. وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَرِيقَانِ: نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ كَالنَّظَّامِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الشِّيعَةِ، وَمُثْبِتُو الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ. قَالَ الْأَوَّلُونَ، غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ نَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: التَّفَرُّقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ فِي أُصُولِ الدين والإسلام. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها الْخِطَابُ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالَهُ: الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ يَعْنِي مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، إِذْ كَانَ الْقَوِيُّ يَسْتَبِيحُ الضَّعِيفَ.
وَقِيلَ: لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَرَجَّحَ هَذَا بِأَنَّ الْعَرَبَ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ تَكُنْ مُجْتَمِعَةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا مُؤْتَلِفَةَ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَى الإسلام
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٣٢.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute