مَا ادَّعَوْا أَنَّهُ وَحْيٌ، كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالتَّبَايُنِ فِي الْبَلَاغَةِ مَا لَا يَخْفَى عَمَّنْ لَهُ يَسِيرُ تَمْيِيزٍ فِي ذَلِكَ. فَكَيْفَ الْجَهَابِذَةُ النُّقَّادُ وَالْبُلَغَاءُ الْفُصَحَاءُ، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ فَصَاحَتَهُمْ بِادِّعَائِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وَقَوْلُهُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَفِيهَا مِنْ تَأْكِيدِ الْمَعْنَى مَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكَانَ مَعْنَاهُ نَفْيٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُخْرِجًا ذَلِكَ مَخْرَجَ الْمُمْكِنِ، أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ، وَهُوَ إِخْبَارُ صِدْقٍ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَأْكِيدُ أَنَّهُمْ لَا يُعَارِضُونَهُ. وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِلَنْ مُمَيِّزٌ لِجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَالِ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا لَنْ، وَكَانَ النَّفْيُ بِلَنْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ لَا، وَإِنْ كَانَتَا أُخْتَيْنِ فِي نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ فِي لَنْ تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا، تَقُولُ لِصَاحِبِكَ: لَا أُقِيمُ غَدًا، فَإِنْ أَنْكَرَ عَلَيْكَ قُلْتَ: لَنْ أُقِيمَ غَدًا، كَمَا تَفْعَلُ فِي: أَنَا مُقِيمٌ، وَإِنَّنِي مُقِيمٌ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مُخَالِفٌ لِمَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ لَنْ تَقْتَضِي النَّفْيَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ خَطِيبٍ زَمْلَكِيٌّ مِنْ أَنَّ لَنْ تَنْفِي مَا قَرُبَ وَأَنَّ لَا يَمْتَدُّ النَّفْيُ فِيهَا، فَكَادَ يَكُونُ عَكْسَ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ، أَعْنِي التَّوْكِيدَ وَالتَّأْبِيدَ وَنَفْيَ مَا قَرُبَ: أَقَاوِيلُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّمَا الْمَرْجُوعُ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ وَتَصَرُّفَاتِهَا لِأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَمَقَانِعِ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَى أَقَاوِيلِهِمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَنْ نَفِيٌ لِقَوْلِهِ: سَيَفْعَلُ، وَقَالَ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ:
تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلْ، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: تَفْعَلُ، وَلَمْ تَفْعَلِ الْمُسْتَقْبَلَ، فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ أَنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْمُسْتَقْبَلَ إِلَّا أَنَّ لَنْ نَفْيٌ لِمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا نَفْيٌ لِلْمُضَارِعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ. فَلَنْ أَخَصُّ، إِذْ هِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مَا ظَهَرَ فِيهِ دَلِيلُ الِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا.
وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي لَا: هَلْ تَخْتَصُّ بِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، أَمْ يَجُوزُ أَنْ تَنْفِي بِهَا الْحَالَ؟
وَظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هُنَا أَنَّهَا لَا تَنْفِي الْحَالَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَدَوَاتِهِ لَا يَكُونُ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى إِلَّا، فَهُوَ لِلْإِنْشَاءِ، وَإِذَا كَانَ لِلْإِنْشَاءِ فَهُوَ حَالٌ، فَيُفِيدُ كَلَامَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَتَكُونُ لَا نَفْيًا لِقَوْلِهِ يَفْعَلُ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، كَانَ الْأَقْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَوَّلًا: مِنْ أَنَّ فِيهَا تَوْكِيدًا وَتَشْدِيدًا لِأَنَّهَا تَنْفِي مَا هُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالْأَدَاةِ، بِخِلَافِ لَا، فَإِنَّهَا تَنْفِي الْمُرَادَ بِهِ الِاسْتِقْبَالُ مِمَّا لَا أَدَاةَ فِيهِ تُخَلِّصُهُ لَهُ، وَلِأَنَّ لَا قَدْ يُنْفَى بِهَا الْحَالُ قَلِيلًا، فَلَنْ أَخَصُّ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَخَصُّ بِالْمُضَارِعِ، وَلِأَنَّ وَلَنْ تَفْعَلُوا أَخْصَرُ مِنْ وَلَا تفعلون، فلهذا كله ترجح النَّفْيِ بِلَنْ عَلَى النَّفْيِ بِلَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute