للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَعِيدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ. وَكَالنَّجَاشِيِّ، وَبَحِيرَا، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّصَارَى إِذْ كَانُوا مُصَدِّقِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَعْدَهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ «١» الْخُصُوصُ، أَيْ بَاقِي أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ حَصَلَ لَهَا الْإِيمَانُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ هُنَا الِاسْتِقْبَالُ. أَيْ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْعُمُومُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِخْبَارًا بِمَغِيبٍ وَأَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمُ الْإِيمَانُ، وَلَا يَسْتَمِرُّونَ كُلُّهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ قَلِيلٌ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْمُؤْمِنُونَ وَفِي الْفَاسِقُونَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْكَمَالِ فِي الْوَصْفَيْنِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَبِالْقُرْآنِ فَهُوَ كَامِلٌ فِي إِيمَانِهِ، وَمَنْ كَذَّبَ بِكِتَابِهِ إِذْ لَمْ يَتْبَعُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ أَيْضًا كَامِلٌ فِي فِسْقِهِ مُتَمَرِّدٌ فِي كُفْرِهِ.

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ هَاتَانِ الجملتان تضمنتا الإخبار بمغيبين مُسْتَقْبَلَيْنَ وَهُوَ: إِنَّ ضَرَرَهُمْ إِيَّاكُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا أَذًى، أَيْ شَيْئًا تَتَأَذَّوْنَ بِهِ، لَا ضَرَرًا يَكُونُ فِيهِ غَلَبَةٌ وَاسْتِئْصَالٌ. وَلِذَلِكَ إِنْ قَاتَلُوكُمْ خُذِلُوا وَنُصِرْتُمْ، وَكِلَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا ضَرَّهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ضَرَرًا يُبَالُونَ بِهِ، وَلَا قَصَدُوا جِهَةَ كَافِرٍ إِلَّا كَانَ لَهُمُ النَّصْرُ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةُ لَهُمْ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَذًى اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ التَّقْدِيرُ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ ضَرَرًا إلا ضررا لَا نِكَايَةَ فِيهِ، وَلَا إِجْحَافَ لَكُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَنْ يَضُرُّوكُمْ لَكِنْ أَذًى بِاللِّسَانِ، فَقِيلَ: هُوَ سَمَاعُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: هُوَ بُهْتُهُمْ وَتَحْرِيفُهُمْ. وَقِيلَ: مَوْعِدٌ وَطَعْنٌ. وَقِيلَ: كَذِبٌ يَتَقَوَّلُونَهُ عَلَى اللَّهِ قَالَهُ: الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ.

وَدَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى تَرْغِيبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَتَثْبِيتِهِمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى تَحْقِيرِ شَأْنِ الْكُفَّارِ، إِذْ صَارُوا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ ضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ إِلَّا مَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ مِنْ إِسْمَاعِ كَلِمَةٍ بِسُوءٍ.

وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي عَدَمِ مُكَافَحَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَرَادُوا قِتَالَهُمْ، بَلْ بِنَفْسِ مَا تَقَعُ الْمُقَابَلَةُ وَلَّوُا الْأَدْبَارَ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُغْلَبُ وَيُقْتَلُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى قرنه


(١) سورة آل عمران: ٣/ ١١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>