للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْنَما ثُقِفُوا عَامٌّ فِي الْأَمْكِنَةِ. وَهِيَ شَرْطٌ، وَمَا مَزِيدَةٌ بَعْدَهَا، وَثُقِفُوا فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَمَنْ أَجَازَ تَقْدِيمَ جَوَابِ الشَّرْطِ قَالَ:

ضُرِبَتْ هُوَ الْجَوَابُ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ ضَرْبُ الذِّلَّةِ مُسْتَقْبَلًا. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ مَاضٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَحَيْثُمَا ظُفِرَ بِهِمْ وَوُجِدُوا تُضْرَبُ عَلَيْهِمُ، وَدَلَّ ذِكْرُ الْمَاضِي عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا دَلَّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَنَدْمَانٌ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا ... سَقَيْتُ إِذَا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ

التَّقْدِيرُ: سَقَيْتُ، وَأَسْقِيهِ إِذَا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ.

إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ ظَاهِرُهُ الِانْقِطَاعُ، وَهُوَ قَوْلُ:

الْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ. وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، لِأَنَّ الذِّلَّةَ لَا تُفَارِقُهُمْ. وَقَدَّرَهُ الْفَرَّاءُ: إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، فَحَذَفَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَارُّ كَمَا قَالَ حُمَيْدُ بْنُ نُورٍ الْهِلَالِيُّ:

رَأَتْنِي بِحَبْلَيْهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً وَنَظَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً قال «١» : لأن بادىء الرَّأْيِ يُعْطِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ خَطَأً. وَأَنَّ الْحَبْلَ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ النَّاسِ يُزِيلُ ضَرْبَ الذِّلَّةِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ يُدْرِكُهُ فَهْمُ السَّامِعِ النَّاظِرِ فِي الْأَمْرِ وَتَقْدِيرُهُ:

فِي أُمَّتِنَا، فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا بِحَبْلٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَلَى مَا قَدَّرَهُ لَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا مِنْ الْأَوَّلِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا مُتَّصِلًا. وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ كَمَا قُرِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ: مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ. عَلَى تَقْدِيرِ الِانْقِطَاعِ، إِذِ التَّقْدِيرُ:

لَكِنَّ اعتصامهم بحبل من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَسَبْيِ الذَّرَارِي وَاسْتِئْصَالِ أَمْوَالِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْقَطَعُ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «٢» فَلَمْ يَسْتَثْنِ هُنَاكَ. وَذَهَبُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ قَالَ: وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ عَامِّ الْأَحْوَالِ، وَالْمَعْنَى:

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ اعْتِصَامِهِمْ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ، يَعْنِي: ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ. أَيْ لَا عزلهم قَطُّ إِلَّا هَذِهِ الْوَاحِدَةُ، وهي التجاؤهم


(١) سورة النساء: ٤/ ٩١.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>