للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهِيَ هَيْئَةٌ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ الْغَاضِبَةِ. كَمَا أَنَّ ضَرْبَ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ يَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ الْمُتَلَهِّفَةِ عَلَى فَائِتٍ قَرِيبِ الْفَوْتِ. وَكَمَا أَنَّ قَرْعَ السِّنِّ هَيْئَةٌ تَتْبَعُ هَيْئَةَ النَّفْسِ النَّادِمَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ عَدِّ الْحَصَى وَالْخَطِّ فِي الْأَرْضِ لِلْمَهْمُومِ وَنَحْوِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ عَضُّ أَنَامِلٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ التَّمْثِيلِ عُبِّرَ بِذَلِكَ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ، وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُهُمْ مِنْ إِذَايَتِكُمْ. وَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ: بُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ، وَالرِّيَاءِ بِإِظْهَارِ مَا لَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ بَاطِنُهُ، جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُتَّخَذَ صَدِيقًا.

قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ظاهره: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ ذَلِكَ. وَهِيَ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَمَعْنَاهَا الدُّعَاءُ: أَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ لَمَّا يَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، هَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ.

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ مُوَاجَهَةً. وَقِيلَ: أُمِرَ هُوَ وَأُمَّتُهُ أَنْ يُوَاجِهُوهُمْ بِهَذَا.

فَعَلَى هَذَا زَالَ مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَبَقِيَ مَعْنَى التَّقْرِيعِ، قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: صُورَتُهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَالْبَاءُ لِلْحَالِ أَيْ تَمُوتُونَ وَمَعَكُمُ الْغَيْظُ وَهُوَ عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ عَلَى قَبِيحِ مَا عَمِلُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَزْدَادَ غَيْظُهُمْ حَتَّى يُهْلَكُوا بِهِ. وَالْمُرَادُ بِزِيَادَةِ الْغَيْظِ مَا يَغِيظُهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّةِ أَهْلِهِ، وَمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الذُّلِّ وَالْخِزْيِ وَالتَّبَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَيْسَ مَا فَسَّرَ بِهِ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، وَيَكُونُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يُشْبِهُ قَوْلَهُمْ: مِتْ بِدَائِكَ، أَيْ أَبْقَى اللَّهُ دَاءَكَ حَتَّى تَمُوتَ بِهِ. لَكِنْ فِي لَفْظِ الزَّمَخْشَرِيِّ زِيَادَةُ الْغَيْظِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: هَذَا لَيْسَ بِأَمْرٍ جَازِمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لَمَاتُوا مِنْ فَوْرِهِمْ كَمَا جَاءَ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا. وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لَمَاتُوا جَمِيعَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ لَا تُرَدُّ. وَقَدْ آمَنَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ بِخَبَرٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَقْعِ عَلَى حُكْمٍ مَا أَخْبَرَ بِهِ يَعْنِي وَلَمْ يُؤْمِنْ أَحَدٌ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. قِيلَ:

وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ قَوْلٌ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِطِيبِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِوَعْدِ اللَّهِ أَنْ يُهْلَكُوا غَيْظًا بِإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَإِذْلَالِهِمْ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: حَدِّثْ نَفْسَكَ بِذَلِكَ.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ، وَالْمَعْنَى:

أَخْبِرْهُمْ بِمَا يُسِرُّونَهُ مِنْ عَضِّهِمُ الْأَنَامِلَ غَيْظًا إِذَا خَلَوْا وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِمَّا تُسِرُّونَهُ بَيْنَكُمْ وَهُوَ مُضْمَرَاتُ الصُّدُورِ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَسْرَارِكُمْ يَخْفَى عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَدْخُلَ تَحْتَ الْقَوْلِ، وَمَعْنَاهُ: قُلْ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا تَتَعَجَّبْ مِنِ اطْلَاعِي إِيَّاكَ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>