فَشِلَ وَتَنَازَعَ، وَعَصَى. لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمْ تَصْدُرْ مِنْ كُلِّهِمْ، بَلْ مِنْ بَعْضِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَقَدُّمِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَا لَمْ يَعْصُوا بِتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ، وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ هَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالْغُيُوبِ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَا يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَلَا ينتهي علمنا إِلَيْنَا إِلَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ يُخْبِرُ بِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ:
الدُّنْيَا الْغَنِيمَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، مَا شَعَرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَالَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ هُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزِهِمْ مَعَ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جبير فِي نَفَرٍ دُونَ الْعَشْرَةِ قُتِلُوا جَمِيعًا، وَكَانَ الرُّمَاةُ خَمْسِينَ ذَهَبَ مِنْهُمْ نَيِّفٌ عَلَى أَرْبَعِينَ لِلنَّهْبِ وَعَصَوُا الْأَمْرَ. وَمِمَّنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ مَنْ ثَبَتَ بَعْدَ تَخَلْخُلِ الْمُسْلِمِينَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، كَأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَضْطَرِبْ فِي قِتَالِهِ وَلَا فِي دِينِهِ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْمَعْطُوفِ.
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أَيْ جَعَلَكُمْ تَنْصَرِفُونَ.
لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَكُمْ عَلَى الْمَصَائِبِ وَثَبَاتَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ عِنْدَهَا. وَقِيلَ:
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أَيْ لَمْ تَتَمَادَ الْكَسْرَةُ عَلَيْكُمْ فَيَسْتَأْصِلُوكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَمْ يُكَلِّفْكُمْ طَلَبَهُمْ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ. وَتَأَوَّلَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَعْنَى: ثُمَّ انْصَرَفْتُمْ عَنْهُمْ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْبَ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ابْتِلَاءٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَى لِيَبْتَلِيَكُمْ أَيْ لِيُنْزِلَ بِكُمْ ذَلِكَ الْبَلَاءَ مِنَ الْقَتْلِ وَالتَّمْحِيصِ.
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ قِيلَ: عَنْ عُقُوبَتِكُمْ عَلَى فِرَارِكُمْ، وَلَمْ يُؤَاخِذْكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: بِرَدِّ الْعَدُوِّ عَنْكُمْ. وَقِيلَ: بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْعَوْدِ إِلَى قِتَالِهِمْ مِنْ فَوْرِكُمْ. وَقِيلَ: بِتَرْكِ الِاسْتِئْصَالِ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ. فَمَعْنَى عَفَا عَنْكُمْ أَبْقَى عَلَيْكُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ سَبْعُونَ، وَقُتِلَ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُهُ. وَإِنَّمَا الْعَفْوُ إِنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهُمْ هَؤُلَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ غِضَابٌ لِلَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute