للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَهُ تَعَالَى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «١» أَيْ أَبْوَابُهَا. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَيَتَأَوَّلُونَ هَذَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَيَجْعَلُونَ الضَّمِيرَ مَحْذُوفًا، أَيِ الْأَبْوَابُ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضًا مِنَ الْإِضَافَةِ لَمَا أَتَى بِالضَّمِيرِ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

قُطُوبُ رَحِيبِ الْجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ ... بِجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةَ الْمُتَجَرِّدِ

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الثَّابِتِ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ. وَجَاءَ هَذَا الْجَمْعُ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْقِلَّةِ إِشَارَةً إِلَى الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ، إِنْ قُلْنَا:

إِنَّ الألف واللام فيها للعهد، أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنْهَارِ الْمَاءِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ، فِي الصَّحِيحِ.

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «نَهْرَانِ بَاطِنَانِ: الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ: سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ» . وَفِي رِوَايَةٍ سَيْحُونَ وَجَيْحُونَ،

وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن مَاءِ الْكَوْثَرِ قَالَ: «ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ تَعَالَى، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ» الْحَدِيثَ.

وَإِنْ كَانَتْ أَنْهَارًا كَثِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ جَمْعِ الْقِلَّةِ مَجْرَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، كَمَا جَاءَ الْعَكْسُ عَلَى جِهَةِ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ.

كُلَّما رُزِقُوا، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى كُلَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّكْرَارِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا يَفْهَمُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَالْأَحْسَنُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ صِفَتُهَا كَذَا، هَجَسَ فِي النُّفُوسِ حَيْثُ ذُكِرَتِ الْجَنَّةُ الْحَدِيثُ عَنْ ثِمَارِ الْجَنَّاتِ، وَتَشَوَّقَتْ إِلَى ذِكْرِ كَيْفِيَّةِ أَحْوَالِهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً، وَأُجِيزَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ لَهَا مَوْضِعٌ مِنَ الْإِعْرَابِ: نَصْبٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا صِفَةً لِلْجَنَّاتِ، وَرَفْعٌ: عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَيَحْتَمِلُ هَذَا وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ ضَمِيرًا عَائِدًا عَلَى الْجَنَّاتِ، أَيْ هِيَ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها، أَوْ عَائِدًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ هُمْ كُلَّمَا رُزِقُوا، وَالْأَوْلَى الْوَجْهُ الْأَوَّلُ لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ فِيهِ لِأَنَّهَا فِي الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ تَتَقَدَّرُ بِالْمُفْرَدِ، فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَوْ إِلَى الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تكون حالا من الَّذِينَ آمَنُوا تَقْدِيرُهُ مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَا يَتِمُ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ مَقْدِرَةً، لِأَنَّهُمْ وَقْتَ التَّبْشِيرِ لَمْ يَكُونُوا مَرْزُوقِينَ عَلَى الدَّوَامِ. وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ جَنَّاتٍ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ قَدْ وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: تَجْرِي، فَقَرُبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَتُؤَوَّلُ أَيْضًا إِلَى الْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ.

وَالْأَصْلُ فِي الْحَالِ أَنْ تَكُونَ مُصَاحِبَةً، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا فِي إِعْرَابِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ غَيْرَ مَا ذكره أبو


(١) سورة ص: ٣٨/ ٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>