قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِي فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالَّذِي أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْهَزِيمَةِ، وَمِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ إِصْعَادَهُمْ وَفِرَارَهُمْ مُجِدِّينَ فِي الْهَرَبِ فِي حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْهَرَبِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَتِهِ، كَانَ الْجِدُّ فِي الْهَرَبِ سَبَبًا لِاتِّصَالِ الْغُمُومِ بِهِمْ، وَشُغْلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ طَلَبًا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ: شُغْلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَاغْتِمَامُهُمُ الْمُتَّصِلُ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ خَوْفِ الْقَتْلِ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ الْحُزْنِ عَلَى فَائِتٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَمُصَابٍ مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ لِإِخْوَانِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: صَارُوا فِي حَالَةٍ مِنِ اغْتِمَامِهِمْ وَاهْتِمَامِهِمْ بِنَجَاةِ أَنْفُسِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ حُزْنٌ عَلَى شَيْءٍ فَايِتٍ وَلَا مُصَابٍ وَإِنْ جَلَّ، فَقَدْ شَغَلَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ لِيَنْتَفِيَ الْحُزْنُ مِنْهُمْ. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَقْتَضِي تَهْدِيدًا، وَخَصَّ الْعَمَلَ هُنَا وَإِنْ كَانَ تَعَالَى خَبِيرًا بِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ مِنْ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْفِرَارِ، وَهِيَ أَعْمَالٌ تُخْشَى عَاقِبَتُهَا وَعِقَابُهَا. ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الْأَمَنَةُ: الْأَمْنُ، قَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ فَقَالُوا: الْأَمَنَةُ تَكُونُ مَعَ بَقَاءِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ، وَالْأَمْنُ يَكُونُ مَعَ زَوَالِ أَسْبَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَنَةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ، عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْنِ. أَوْ جمع آمن كبار وَبَرَرَةٍ، وَيَأْتِي إِعْرَابُهُ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: أَمْنَةً بِسُكُونِ الْمِيمِ، بِمَعْنَى الْأَمْنِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: امْتِنَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَمْنِهِمْ بَعْدَ الْخَوْفِ وَالْغَمِّ، بِحَيْثُ صَارُوا مِنَ الْأَمْنِ يَنَامُونَ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّدِيدَ الْخَوْفَ وَالْغَمَّ لَا يَكَادُ يَنَامُ. وَنَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ مِنْ غَلَبَةِ النَّوْمِ الَّذِي غَشِيَهُمْ كَأَبِي طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي غَشِيَهُمْ فِيهِ النُّعَاسُ.
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: حِينَ ارْتَحَلَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَوْضِعِ الْحَرْبِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ وَكَانَ مِنَ الْمُتَحَيِّزِينَ إِلَيْهِ: «اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى الْقَوْمِ فَإِنْ كَانُوا جَنَبُوا الْخَيْلَ فَهُمْ نَاهِضُونَ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى خَيْلِهِمْ فَهُمْ عَائِدُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا»
وَوَطِّنْهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، فَمَضَى عَلِيٌّ ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ: أَنَّهُمْ جَنَبُوا الْخَيْلَ، وَقَعَدُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ عِجَالًا، فَأَمِنَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُصَدِّقُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ. وَبَقِيَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لَا يُصَدِّقُونَ، بَلْ كَانَ ظَنُّهُمْ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ يَؤُمُّ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ نَوْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّهُمْ فِي أَحْوَالِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَثَبَتَ
فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنًا يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَفِي طَرِيقٍ رَفَعْتُ رَأْسِي فَجَعَلْتُ مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا وَهُوَ يَمِيلُ تَحْتَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute